مات الشاعر المبدع.. ولكن لن تموت كلماته.. وإذا كان الأبنودى أوصانا بألا ننساه أو كما قال بالحرف الواحد قبل وفاته بأيام «ماتنسونيش»، فإن كلماته هى التى ستجبرنا دوما على ألا ننساه.. السطور القادمة شهادة من مكتشف النجوم الأستاذ لويس جريس.. وشهادات ومحطات أخرى فى حياته! • كاتبة المحكمة كانت محكمة الأسرة بمحافظة قنا تزدحم بقضاياها عندما جاءت سيدة تطالب بإلزام زوجها بدفع نفقة شهرية لها ولأولادهما بعد أن تركهم وارتبط بأخرى، قرأ القاضى تفاصيل القضية وملابساتها وسمع السيدة، ثم حدد قيمة النفقة ورُفعت الجلسة، حينها صرخ فى وجهه عبدالرحمن محمود أحمد عبدالوهاب الأبنودى «كاتب الجلسة» قائلا: «يعملو إيه القرشين دول يعنى.. إنتى عايز الست تمشى فى البطال ولا إيه؟». كان المبلغ الذى أقره القاضى لا يسمن ولا يغنى من جوع، ولا يكفى لشراء العيش الحاف، ومع ذلك انفعل القاضى وقال للأبنودى «أنت اتجنيت ولا إيه.. أنت قلم المحكمة يعنى لازم تكتب اللى باقوله من غير نقاش»!! لم يسكت الأبنودى بل رد على القاضى قائلا: «أنا عقلت مش اتجنيت، سلام عليكم». ترك الموظف عبدالرحمن محمود أحمد عبدالوهاب الأبنودى قاعة الجلسة ومبنى المحكمة وتقدم باستقالته من عمله، ليشق طريقه نحو العاصمة مسلحاً بطموح كبير فى أن يصبح شاعراً معروفاً. • رحيل فى ليلة هادئة من ليالى مدينة قنا سمع الأهالى بشارع «بنى حسن» درب الحلوى، صوت عويل وصراخ لم يفسروا فى البداية من أين يأتى الصوت، وعندما خرجوا واقتربوا من الصوت وجدوها هى «فاطمة» أو «فاطنة» كما كانوا يدعونها جميعاً.. تساءلوا لماذ تبكين وتصرخين، فقالت «الواد عبدالرحمن سابنى وهج»، فسألوها إلى أين فقالت «راح مصر عشان يبقى شاعر»، واستمرت فى الصراخ والعويل أياما وأياما إلى أن جاءتها إحدى جيرانها مسرعة وهى تنادى عليها من بعيد: «يا فاطنة.. يا فاطنة الحقى يا فاطنة.. عبدالرحمن طلع فى الإذاعة» فسألتها ببراءة أهل الصعيد المعتادة «طلع فى الإذاعة إزاى يعنى.. طلع راسه من الراديو؟؟!!».. فقالت لها «لا صوته بس بيقول شعر ولدك يا فاطنة». فرحت كثيراً الأم وتهللت أساريرها وتلك كانت البداية، بداية الشاعر عبدالرحمن الأبنودى. إذا جاك الموت يا وليدي موت على طول اللى اتخطفوا فضلوا أحباب صاحيين فى القلب كإن ماحدش غاب. واللى ماتوا حتة حتة ونشفوا وهم حيين.. حتى سلامو عليكم مش بتعدي من بره الأعتاب • محطات توالت محطات التقدم فى حياة «الأبنودى» بعد ذلك، يروى لنا الكاتب لويس جريس قائلاً: خلال عملى بمجلة «صباح الخير» بعد عودتى من البعثة التى استمرت لمدة 3 سنوات فى جامعة ميتشجن بالولايات المتحدة لعمل دراسات عليا فى الصحافة والاقتصاد والسياسة، اقترحت على الأستاذ فتحى غانم وكان رئيس تحرير المجلة وقتها أن نذهب لاكتشاف المواهب الجديدة والمبدعين فى كل المحافظات، فلماذا دائما نجلس وننتظر المواهب أن تأتى لنا وتطرق الباب، لماذا لا نطرق نحن بابها ونكتشفها ونقدمها، ورحب «غانم» بالفكرة ترحيبا جما، وقال لى إنها فكرة رائعة فلو لم نقدم المواهب لن يلتفت لها أحد ولن يعرفها أحد، واتفقنا على أن أذهب أنا إلى الصعيد ويذهب عبدالله الطوخى الكاتب والقصاص وجه بحرى والدلتا، وبالفعل توجهت إلى الصعيد بادئاً بالجيزة ثم بنى سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج إلى أن وصلت إلى قنا وفى كل محافظة كنت أذهب إلى المدرسة الثانوى بها والإعدادى وعندما وصلت قنا جلست إلى مقهى لم أتذكر اسمه وأقبل على شاب قال لى: «عرفت أن حضرتك جاى هنا عشان تكتشف المواهب الجديدة فى الكتابة.. تعالى أعرفك على مواهب ومبدعين»، فقلت له «ياريت»، وبالفعل اصطحبنى هذا الشاب طوال فترة مكوثى بقنا، ذهبنا أولا إلى منزل عبدالرحمن الأبنودى ولم نجده، حيث قالوا لنا إنه سافر إلى القاهرة ثم توجهنا إلى منزل أمل دنقل بقفط ولم نجده أيضا لأنه سافر القاهرة، وبينما كنت أركب القطار مودعا قنا وعائداً إلى القاهرة ودعت ذلك الشاب الطيب الأصل الذى اصطحبنى واستضافنى ببيتهم الجميل البسيط، وبينما يتحرك القطار أعطانى ذلك الشاب مجموعة من الأوراق التى كتبت بخط الأيد وطلب منى أن أقرأها وقال لى إنه يكتب الشعر.. اندهشت كثيراً وسألته لماذا لم تقل لى من بداية الرحلة ابتسم وقال: «أقرأهم بس وابقى قولى رأيك» كان هو الشاعر عبدالرحيم منصور البسيط الجميل الرقيق، تركت قنا وعشقت بها شيئين عبدالرحيم منصور وزبادى الفخار الذى كانت تصنعه بالفرن السيدة زينب إسماعيل الخلاوى والدة عبدالرحيم منصور، ذهبت إلى قنا ولم أعلم أننى فى كنز من المواهب والإبداع، لم أقابل عبدالرحمن الأبنودى بقنا، ولكنى قابلته عقب وصولى القاهرة بمجلة «صباح الخير» هو و«أمل دنقل» و«سيد حجاب»، كان «الأبنودى» شاعراً حقيقياً متمكنا من مفرداته يعى تماماً كيف يكتب ومتى، يتمتع بحس شعرى متفرد كان متميزا للغاية فى إلقاء قصائده حتى عندما كنا نسكن بالمقطم أنا والفنانة الراحلة «سناء جميل» دعوناه على حفل عشاء هناك وأتى بالفعل، وأخذ يقول شعرا حتى الصباح ونحن ما علينا سوى أن نصفق ونقول الله، كنا نتقابل كثيراً فى عروض المسرحيات أو أتيليهات الفن التشكيلى، وما إلى ذلك من مناسبات، كان هناك 3 شعراء أساسيين فى الأعمال المسرحية أو التليفزيونية والغنائية وقتها بالتبادل وهم: سيد حجاب وعبدالرحيم منصور وعبد الرحمن الأبنودى، رواد شعر العامية فى مصر وقتها. آخر اتصال هاتفى كان بيننا يوم 7 يناير الموافق عيد ميلادى، هاتفنى «الأبنودى» وقال لى «إيه يا عم لويس مش هتيجى تقضى يومين عندى فى أبوسلطان»، سألته عن حالته الصحية فقال لى «الرئة يبست يا لويس» فسألته «يعنى إيه يبست يا عبدالرحمن؟»، فضحك؛ وقال لمن حوله لويس مش عارف يعنى إيه يبست، يبست يا عم لويس يعنى مبقتش تؤدى وظيفتها كما ينبغى وهى إخراج ثانى أكسيد الكربون وإدخال الأكسجين أهو ادعيلى يالويس». لم أسمع صوت عبدالرحمن من وقتها، وكأنه كان يودعنى قبل الرحيل. أول مايجيك الموت.. افتح أول ماينادى عليك.. إجلح إنت الكسبان إوعى تحسبها حساب!! بلا واد.. بلا بت.. ده زمن يوم ما يصدق.. كداب!! سيبها لهم بالحال والمال وانفد إوعى تبص وراك • عشت طفلا «حيًا أو ميتًا أنا عبدالرحمن الأبنودى.. عِشت حياتى طفلًا، أحببت هذا الوطن والناس، متنسونيش ولا عايز أتلف فى علم ولا ملاية، عايز أرحل من بره بره كده»، قالها الراحل قبيل رحيله بأسابيع خلال حوار أجرته معه إحدى القنوات التليفزيونية، ليوجه آخر رسائله للمصريين. فنان حر طليق، صادق، بسيط، صبغ أفكاره بكلمات بسيطة عبّر من خلالها عن العامة، عن الواقع، عن الثورة والغضب والحب والجنون، واحد من أشهر شعراء العامية فى مصر والعالم العربى، ولد فى محافظة قنا فى صعيد مصر، لأب كان يعمل مأذونًا شرعيًا، وانتقل إلى مدينة قنا، حيث استمع إلى أغانى السيرة الهلالية التى تأثر بها. • يحيى حقى عبدالرحمن الأبنودى، الذى قال عنه يحيى حقى، إنه يشبه «قرص العيش البلدى بالسمنة الفلاحى»، منوهًا عن خالص محبته وتحيته لهذا التشبيه الذى أسعده كثيرًا. وأمى.. والليل مليل طعم الزاد القليل بترفرف.. قبل ترحل جناح بريشات حزانى وسددت ديونها وشرت كفن الدفانة تقف للموت يوماتى: «ما جاش ابن الجبانة» كان يعشق والدته حتى الثمالة وكتب فى رثائها يقول: «عمرى ما تخيلت إنّى بحب أمى بالشكل ده، كلامها شِعر، وخدت منها أغانى كتيرة». «ويا مصْر وإن خيّرونى ما أسكن إلاكى ولاجْل تتبِّسمى.. يا ما بابات باكى تسقينى كاس المرار.. وبرضُه باهواكى بلدى ومالى إلا إنتى ولو ظلمتينى. مقبولة منِّك جراح قلبى وْدموع عينى الجرح يشْفى إذا بإيدك لمستينى.. كلّك حلاوَة.. وكلمة «مصر» أحلاكى!! يعد «الأبنودى» علامة من علامات تاريخ ونضال هذا الوطن وأشواقه وانتصاراته وأحزانه، وستظل كلماته سيفا يقطع رقاب كل من يعادى هذا الوطن. «مصر محاصرة بكلاب من كل ناحية، احنا على الحافة.. هكون خاين لو زقيت مصر ناحية الكلاب دول»، كلمات عبّر بها عن الواقع المصرى الآن، الواقع الذى خوّنه واتهمه بالجنون، ورسم على صوره علامة الموت التى أغضبته كثيرًا قائلًا «قتلونى، ورسموا عليا علامة الموت». لقد قدم لنا الأبنودى نموذجاً رائعاً للفلاح (أى فلاح ) أردنى، فلسطينى، سورى، سعودى، سودانى، الذى كد واجتهد، وبذر، وسهر، وحصد، وقدم لنا الفلاح البسيط، قدم لنا الساقية، والمسحاة، والفأس، قدم لنا قريته أبنود ومظاهرها الاجتماعية وعاداتها وأفراحها وأحزانها، قدم لنا الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، وقدم لنا قمة الإخلاص والوفاء والمحبة لوطنه الصغير أبنود لينطلق منها إلى الوطن الكبير ليتجلى ذلك فى أبهى صورة حملها الشاعر الكبير الأبنودى حتى فى محنته المرضية. • أسماء تتوجع عندما رحل الكاتب وصديق عمره «يحيى الطاهر عبدالله» فى حادث سيارة على طريق الواحات، وذلك فى 19 إبريل 1981 كانت طفلته أسماء لم تتعد 5 سنوات تكفل بها «الأبنودى» حيث عاشت معه وكأنها لم تُحرم من أبيها، وعاشت معه 6 سنوات حتى أصبحت 11 سنة. قالت أسماء يحيى الطاهر عبدالله: إنها ودعت أباها للمرة الثانية بوفاة عبدالرحمن الأبنودى لم تكن تتخيل أنها ستحزن وتتوجع كل هذا الوجع فهى دائما تظن أن أبوة «الأبنودى» سرمدية لا تنقطع أبداً، تستقبل التعازى بكامل وهنها وحزنها ولا تستطيع الحديث. كتب «الأبنودى» فى إهداء ديوانه «الأرض والعيال» الصادر عن مطبعة مدبولى 1986 قائلا: إلى ابنتى: أسماء يحيى الطاهر عبدالله شعاع النور.. الذى تسلل همساً إلى قلبى. «حيًا أو ميتًا أنا عبد الرحمن الأبنودى.. عِشت حياتى طفلًا، أحببت هذا الوطن والناس، متنسونيش ولا عايز أتلف فى علم ولا ملاية، عايز أرحل من بره بره كده»، قالها الراحل قبيل رحيله بأسابيع خلال حوار أجرته معه إحدى القنوات التليفزيونية، ليوجه آخر رسائله للمصريين. ونشر الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى تغريدة خاصة به منذ أربعة أيام قبل وفاته فقال: مقبولة منِّك جراح قلبى وْدموع عينى الجرح يشْفى إذا بإيدك لمستينى كلّك حلاوَة وكلمة «مصر» أحلاكى!! قدم الأبنودى العديد من الأعمال ومن أشهرها: السيرة الهلالية التى جمعها من شعراء الصعيد، وكتاب بعنوان «أيامى الحلوة» الذى نشر فى حلقات منفصلة بملحق أيامنا الحلوة فى جريدة الأهرام، ثم تم جمعها فى كتاب واحد يحكى قصصا مختلفة من حياته فى صعيد مصر. وكتب فى إهداء كتاب «أيامنا الحلوة» لابنتيه آية ونور يقول حين تكبر، آية ونور سوف تكون مهمتهما صعبة فى المزع على قريناتهما بأنهما من نفس طبقتى، لأنى فى هذا الكتاب أحاول أن أفسد عليهما الأمر. لا أظن أبداً، أننى سأنجح إذا حاولت إقناعهما بأن «أيامى الحلوة» تصلح مادة للفخر فى هذا المجتمع المادى جدا الذى تعيشانه، لكننى وإلى أن أرحل سوف أظل مديناً لقريتى «أبنود» وسأظل أشكر الأقدار على أن وهبتنى تلك الطفولة الغنية التى قد يراها البعض فقيرة وقاسية ومعذبة». ونجح الأبنودى فى تغيير شكل الأغنية المصرية، وأضاف عليها الكثير نتيجة لتأثره بالصعيد والمواويل الشعبية والأغانى التراثية هناك، تغنى بكلماته العديد من كبار الفنانين منهم: محمد رشدى وعبدالحليم حافظ ونجاة ووردة وشادية وصباح وماجدة الرومى ومحمد منير وعلى الحجار وأنغام وآمال ماهر. رحل عنا «الأبنودى» وبقيت أعماله.. هكذا دائما المبدعون لا يرحلون يعيشون بما تركوا لنا.. غابت الشمس بوفاته وعدى النهار. يا قمر يا رغيف بعيد النهارده ال حد عيد الغُناى ليه فرحانين والفقير ليه مش سعيد•