لم يعد أحد يتذكر اسم «درية شفيق» وهى التى شغل اسمها الدنيا وكانت حديث الأوساط النسائية والسياسية والاجتماعية!.. ولا يمكن كتابة تاريخ وكفاح المرأة المصرية بغير الكتابة عن «درية شفيق» وما أسسته وطالبت به وعملت على تحقيقه. درية شفيق صاحبة ورئيسة تحرير مجلتى «بنت النيل» و«المرأة الجديدة» عام 1945 ومجلة «الكتكوت» وهى مجلة خاصة بالأطفال عام 1946، وتأسيس اتحاد بنت النيل كحزب سياسى نسائى مصرى عام 1948. كانت أول فتاة مصرية مسلمة تشارك فى مسابقة ملكة جمال مصر وجاء اختيارها كوصيفة أولى، وأثارت اهتمام الرأى العام والصحافة المصرية والأجنبية التى كتبت تقول عنها: شابة مثقفة جدا تريد أن تثبت وجودها فى المجال النسائى، حصلت على البكالوريا فى سن السادسة عشرة وجاء ترتيبها الثانى من بين كل الناجحين. وذات صباح تصحو مصر كلها على خبر زواج أشهر كاتب صحفى مصرى وهو الأستاذ أحمد الصاوى محمد الكاتب الأشهر فى الأهرام وصاحب باب «ما قل ودل» وكانت الزوجة هى «درية شفيق» التى كانت أصغر منه. يقول الأستاذ الكبير «مصطفى أمين: كان هذا الزواج هو زواج الموسم، خاصة أن بطليه كانا من أنصار المطالبة بحقوق المرأة، وتم عقد الزواج بسرية تامة ولم يتسرب النبأ إلى جريدة أو مجلة وانفردت صحيفة الأهرام وحدها بنشر الخبر الخطير فى صدر الصفحة الأولى ونشرت صورتين كبيرتين بعرض أربعة أعمدة بعنوان «قران سعيد» ودهش القراء، فهذه أول مرة تنشر الأهرام صورة عروسين فى الصفحة الأولى. ولكن الزواج الذى أحدث ضجة كبرى لم يستمر بل حدث الطلاق قبل الزفاف، فقد كان «أحمد الصاوي» أوروبيا من الخارج وصعيديا من الداخل، ولد فى مدينة أسوان وتعلم فى باريس، فهو متحرر فى كتاباته عن الحب والعشق والهوى والجمال ومحافظ فى بيته. وكانت درية شفيق متأثرة بدراستها فى السوربون «بباريس» تطالب للمرأة المصرية بكل حقوق المرأة الفرنسية تريدها ناخبة ونائبة ووزيرة، وكان «الصاوي» لا يمانع أن تكون كل امرأة فى مصر وزيرة وسفيرة ما عدا زوجته هو، فإن مكانها فى البيت وتم الطلاق. وعقب الطلاق سافرت إلى باريس وحصلت على الدكتوراه فى موضوع «المرأة فى الإسلام» وتتزوج من ابن خالتها د.نورالدين رجائى فى باريس عام 1937، وكتبت الصحف عنها تقول: الدكتورة الشابة أمل الجامعة المصرية والحركة النسائية فى مصر. •• كانت درية شفيق جميلة وحسناء بأكثر مما ينبغى، بل إن البعض راح يردد أنها حصلت على الدكتوراه لأنها امرأة جذابة وليس لجدارتها العلمية!! وعقب عودتها إلى مصر كان المفروض أن يتم تعيينها كمعيدة فى كلية الآداب، لكن الدكتور أحمد أمين عميد الكلية رفض تعيينها بحجة أنه لا يستطيع تعيين امرأة جميلة للتدريس بالكلية!! ولم تيأس درية والتقت وزير المعارف وفوجئت به يقول لها: إن العميد اتصل به وأعلن متوعدا يوم تخطو درية شفيق بقدمها إلى الجامعة هو يوم أغادرها أنا!! وقرر الوزير تعيينها فى وظيفة مفتشة لمدارس البنات فى الإسكندرية بعيدا عن عيون الرجال، وكتبت صحيفة الديلى ميلى الإنجليزية تقول: إن درية شفيق أجمل بكثير من أن تشغل أى منصب فى الدولة!! واقتحمت درية شفيق مجال العمل العام وناشدت الصفوة النسائية فى مصر بالتكاتف والتعاون لمكافحة ثلاث آفات خطيرة وهى: الجهل والمرض والفقر، وشاءت الصدفة عندما قررت الأميرة شويكار «الزوجة الأولى للأمير ثم الملك أحمد فؤاد» إصدار مجلة ثقافية وأدبية واختارت «درية شفيق» لرئاسة تحريرها، وكان اسم المجلة «المرأة الجديدة»، وفى مذكراتها تعترف «درية شفيق» قائلة: إن أردت أن أساعد بلادى فلابد لى من مركز مهم، ومجلة «المرأة الجديدة» هى سبيلى الوحيد إلى ذلك، لقد وفرت لى وضعا انطلق منه فيما بعد برسالتى.. وتعرضت درية شفيق لحملة هجوم ضارية وانتقادات لا حدود لها لأنها كانت تتحدث الفرنسية بطلاقة، والمجلة تكتب بالفرنسية، كما أنها تلقت تعليمها فى فرنسا، إذن فهى تتعاون مع الاستعمار!! وقررت درية شفيق أن تصدر مجلة باللغة العربية، فكانت مجلة بنت النيل التى صدر عددها الأول فى نوفمبر سنة 1945، وساهم زوجها فى تمويل المجلة، وأفسحت المجلة صفحاتها لأسماء شابة صارت نجوما لامعة فيما بعد د.إبراهيم عبده، لطفى الخولى، صلاح ذهنى، وغيرهم. وأصبحت المجلة منبرا مهما طالبت من خلاله بضرورة تمثيل المرأة فى البرلمان والمطالبة بحقوق المرأة السياسية وكذلك شرح دور وواجبات الزوجة والأم. ولم تغفل درية شفيق اهتمامها بالطفل فأصدرت مجلة خاصة أطلقت عليها «الكتكوت». ثم جاءت الخطوة الأكثر جسارة عام 1948 عندما أسست اتحاد بنت النيل كحزب سياسى نسائى وجاء فى برنامجه تعديل الدستور على نحو يؤكد أن الأمة مصدر السلطات، وتعديل قانون الانتخاب ليسمح للمرأة بحق الانتخاب والترشح، والمطالبة بتجنيد المرأة للمساهمة فى الدفاع عن أرض الوطن، وتقول فى مذكراتها: منذ البداية وهبت روحى وجسدى لاتحاد بنت النيل! وفى شتاء عام 1951 طرأت لها فكرة غير عادية فقد اتفقت مع حوالى ألف وخمسمائة امرأة على اقتحام مقر البرلمان، وهو ما حدث بالفعل وكان حديث الناس فى مصر والصحافة الأجنبية، ووعدها رئيس مجلس الشيوخ «زكى العرابى باشا» بأنه سيتولى دراسة الأمر بنفسه أى حقوقهن السياسية!.. وتكتب صحيفة «النيويورك تايمز» معلقة على ذلك الموقف تحت عنوان مثير هو «المد النسائى الصاعد يدهش مصر» صدمة من جراء تصرف المطالبات بحق الانتخاب باقتحامهن للبرلمان! وقام النائب العام بالتحقيق معها، وترافعت عنها الأستاذة المحامية الكبيرة «مفيدة عبدالرحمن» وسرعان ما تم تأجيل القضية لأجل غير مسمى!! وأثناء ذلك تقدمت أربع طالبات من الجامعة بالتماس رفعنه إلى الملك فاروق كتبنه بدمائهن يطالبن فيه بحقوق متساوية للمرأة!! الطريف أن الملك وكان صديقا لزوج درية قال له: أبلغ زوجتك أن النساء لن يحصلن على حقوق سياسية طالما بقيت ملكا! وقامت ثورة 23 يوليو 1952 وأيدتها درية شفيق، بل إنها بعد يومين فقط ذهبت إلى مكتب اللواء محمد نجيب لتهنئه- هو وزملاءه الضباط الأحرار، وقالت له: أنت لم تحقق سوى نصف الثورة إذ يبقى تحرير المرأة!! وسرعان ما قدمت له مشروعا متكاملا لمكافحة الأمية بين النساء والرجال يستغرق ثلاث سنوات.. وسرعان ما وقع الصدام بين درية شفيق والثورة عندما قررت الإضراب عن الطعام حتى الموت احتجاجا على تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع دستور جديد لم يضم امرأة واحدة «لجنة الخمسين» قائلة: أنا أرفض الخضوع لدستور لم أشترك فى صياغته!! كانت نقابة الصحفيين هى المكان الذى اختارته لتنفيذ إضرابها وأعلنت أن المصريات يطالبن بحقوق المرأة الدستورية كاملة غير منقوصة وإتاحة الفرصة لها فى مناقشة الدستور الذى سيحكم به المصريون جميعا نساء ورجالا. وزارها محافظ القاهرة السيد «محمود نور» وأبلغها رسالة شفوية من الرئيس اللواء محمد نجيب بأن مطالب النساء ستكون محل نظر. وتحقق ذلك بالفعل فى دستور سنة 1956 وبعد عام فوجئت مصر والعالم بدرية شفيق تعتصم بمقر السفارة الهندية احتجاجا على ما يحدث!! وتدخل الرئيس الهندى «نهرو» لحل الأزمة، واستغلت الصحافة العالمية هذا الحادث وراحت تهاجم مصر وعبدالناصر. كان الزمن قد تغير ولم تعد درية شفيق هى ذلك الصوت النسائى الغاضب، وسرعان ما توارت أخبارها ولم تعد مجلتها تجد نفس الرواج السابق، فجاءت العزلة والاختفاء عن الحياة العامة، إلى أن فوجئت مصر كلها بنبأ انتحارها فى 20 سبتمبر سنة 1975. وفى تلك السنوات كتبت حوالى 16 كتابا بالإضافة إلى مذكراتها البالغة الأهمية ولم تنشر حتى الآن!! •