في الثمانينيات والتسعينيات عشت فترة انتعاش مسرح القطاع الخاص سواء بالقاهرة أو الإسكندرية هذا الرواج المسرحي دفع بعض مُنتجي المسرح لإنتاج أكثر من مسرحية في وقت واحد ووقتها كان اعتمادهم الأكبر علي «السياح العرب» ولذلك كانوا يعرضون مسرحياتهم طوال أيام الأسبوع موزعة بين مصر وإسكندرية وفي نهاية الموسم المسرحي يتوجهون بعروضهم للمحافظات. وكانت هذه المسرحيات خليطًا من الجيد الذى نحترمه والسيئ الذى يفرضه المنتجون لإرضاء فئة معينة من جمهور المسرح السياحي، وفى جميع الأحوال أنت أمام مسارح مضاءة وبيوت مفتوحة وموهوبين جدد تتعرف عليهم من خلال المسرح ونجوم صف أول كنت لا تراهم إلا من خلال شاشات السينما «قبل انتشارهم بالدراما» وفى ظل هذا الزخم المسرحى كان لجلال الشرقاوى مسرح بالمنتزه «الإسكندرية» ومسرح «الفن» بالقاهرة وفى كليهما كان يحقق المعادلة الصعبة من خلال مسرح الكباريه السياسى الذى يجمع بين الفن الجيد والتجارى فى ذات الوقت وبالطبع كان الجمهور يلهث خلف عروضه سواء كان المتفرج سائحا أو من الذين ينتمون لمصر المحروسة. يعتبر جلال الشرقاوى ملك المسرح السياسى بلا منازع ودخل معارك شرسة مع النظام البائد أدت لغلق مسرحه لمدة أربع سنوات كاملة، ورغم الظروف التى مر بها إلا أنه لم يستسلم وفتح مسرحه فى عز ما مرت به البلاد فى السنوات الثلاث الأخيرة فهو عاشق للمسرح وما كسبه منه على مدار مشواره يضعه فيه إيماناً بالرسالة التى يقدمها ولم يفعل مثل أغلب المنتجين الذين أغلقوا مسارحهم واتجهوا للإنتاج الدرامي، شأنهم شأن نجوم المسرح الذين فضلوا كسب الملايين من الدراما بعيدا عن صداع المسرح وفلوسه الضئيلة رغم أن المسرح هو سبب ماوصلوا إليه من نجومية. • «دنيا حبيبتى» وبالعودة لجلال الشرقاوى سنجد أنه الوحيد حالياً الذى يضيء مسرحه كمخرج ومنتج من خلال عرض «دنيا حبيبتي» للكاتب الصحفى أيمن الحكيم، أفيش مسرحيته لابد أن يستوقفك فأنت أمام أسماء يتحدى بها جلال الشرقاوى هروب النجوم من المسرح بعد أن جذبتهم ملايين المسلسلات، ولا يخفى على أحد أن جلال الشرقاوى له فكره المسرحى الخاص فهو من الذين يضعون المسرح السياسى نصب أعينهم، وتاريخه المسرحى حافل بهذه النوعية مثل «عطية الإرهابية» و «دستور يا أسيادنا» وغيرهما، ومخرج بهذا الفكر لا يجعل «ثورة 25 يناير» وما مرت به البلاد دون أن يتناولها بمسرحه ولأنه رجل مسرح مخضرم يعى جيدا أن تقديم عمل فنى عن الثورة فى الوقت الحالى ليس منصفا ويجب الانتظار حتى تتضح الحقائق كاملة لكنه اختار فترة «حكم الإخوان» فقط وهى فترة لا مجال فيها للتشكيك فى بلاوى الرئيس المخلوع وأهله وعشيرته وفتاويهم العجيبة. عشت ثلاث ساعات ونصف الساعة من الضحك مع «دنيا حبيبتى» وهى تنتمى للمسرح السياسى الغنائى الاستعراضى الذى اشتهر به مسرح جلال الشرقاوى وفيها شاهدت مصر وهى بين الإخوان والسلفيين وما يحملونه فى ضمائرهم من كره وغل يحركهم بالتدريج لطمس ثقافتها وفنها وهدم آثارها ونهب أراضيها «سيناء وحلايب وشلاتين» وتوزيعها على أصدقائهم من الحمساويين والسودانيين بخلاف الفتاوى العجيبة التى لاتمت للدين بصلة وتآمرهم مع قطر وغيرها من الدول التى تضمر الكره لمصر ولشعبها، ونجح كل من المخرج والمؤلف فى رصد فترة حكمهم وعربدتهم بالبلاد بشكل كوميدى ساخر. • مغامرة مخرج من يشاهد «دنيا حبيبتى» يتأكد أن جلال الشرقاوى حشد طاقته الإبداعية كمخرج ووضعها فى هذا العرض الجريء المبهر والمعروف أنه أول من ابتكر تطعيم مسرحياته بمشاهد سينمائية «وثائقية» وكان أولها فى مسرحية «انقلاب» للفنانة نيللى وفى مسرحية «دنيا حبيبتى» نراه يمزج بحرفية مشاهد تسجيلية شهيرة بأحداث مسرحيته مثل «قتل النقراشي» و«فرج فودة» و«القاضى الخازندار» وغيرها من المشاهد وبخبرته أيضا استطاع توجيه إدارة عدد من الوجوه الجديدة كانت فى حاجة لمخرج بحجم وقامة جلال الشرقاوي، ويحسب له مغامرته ببطلة جديدة وهى نسمة محجوب ابنة المخرج علاء محجوب ونجمة ستار أكاديمى بعد اعتذار لطيفة وإحقاقاً للحق من يشاهد نسمة محجوب فى دور «دنيا» التى ترمز لمصر على خشبة المسرح يكتشف أنها ممثلة موهوبة شاملة ويتأكد أنها الأصلح لهذا الدور الذى يحتاج لأداء تمثيلى واستعراضى طازج مفعم بالحيوية. يحسب أيضا للمخرج جلال الشرقاوى استعانته بوجوه جديدة مثل إنجى خطاب «ميسورة» سكرتيرة المرشد و«محمود الأشطر» المتلون الذى يأكل على جميع الموائد و«أيمن أسماعيل» كرمز لخيرت الشاطر ونشوى الإبيارى» و«محمد عماد» الذى لعب دور المعتوه ومحمود عبدالرازق وسامى حنتور ومحمد طلبة ورغم أن أغلبهم لعب أدوارًا صغيرة ببعض الأعمال الفنية إلا أن أدوارهم فى مسرحية «دنيا حبيبتى» ستكون نقطة فارقة فى مشوارهم الفنى. رغم أن رضا إدريس ليس جديدا على خشبة المسرح إلا أن التحية واجبة أيضاً للمخرج جلال الشرقاوى على إعادة اكتشافه كرمز لشخصية «المرشد» وتحية لرضا إدريس أيضاً على وقوفه يومياً على خشبة المسرح يضحك الجمهور وفى قلبه حزن على والده الذى وافته المنية الأسبوع الماضى ولسيد جبر كرمز لشخصية «أبو إسماعيل» فى أدوار رئيسية بمسرحيته. أما كمال أبو رية فهو ممثل لا يعنيه التواجد بقدر ما يعنيه ماذا سيقدم ويحسب له أنه وضع رأسه على كفه ووافق على تجسيد شخصية «فارس» كرمز لعبدالفتاح السيسى القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع.. وقت حكم الإخوان فى الوقت الذى اعتذر فيه زملاؤه عن المشاركة بالمسرحية خوفا من الجماعة المحظورة. استطاع دكتور مدحت العدل التعبير بأشعاره عن فترة حكم الإخوان بجدارة وكانت ألحان محمد رحيم متناغمة إبداعياً مع الأشعار وصوت نسمة محجوب لنجد أنفسنا أمام سيمفونية رائعة اكتملت بموهبة مصمم الاستعراضات محمد شفيق، أيضاً يعتبر الديكور من العناصر الملفتة بالمسرحية خاصة ديكور «السجن» الذى عبر عن سجننا فترة حكم الإخوان. وأخيراً مسرحية «دنيا حبيبتي» من الأعمال التى تستحق أن تشاهدها خاصة أن مخرجها ومنتجها جلال الشرقاوى وفر لها كل عناصر النجاح الفنى بالإضافة لتخفيضه أسعار التذاكر لتكون فى متناول جميع العائلات.•