الحقيقة دائما ما أضبط نفسى متلبسة بالغوص فى أعماق أى نفس بشرية أقابلها.. لا أعرف لماذا.. ولكننى لدىَّ إيمان حقيقى أن أى مشكلة تطفو على السطح لها أسباب قوية فى العمق ولذلك أرى أن أى مشكلة تظهر الآن على الساحة المصرية هى بالأساس مشكلة مواطن.. إنسان مصرى عادى إذا تحسن حاله تحسن حال الوطن ومن هنا تأتى متعتى الدائمة فى محاورة المتخصصين النفسيين للوصول إلى بيت الداء ومحاولة علاجه ولذلك فإننى أقدم لك عزيزى القارىء حوارى مع د. غادة الخولى أستاذ الطب النفسى بجامعة القاهرة.. لعل هذا قد يغير فى الأمر شيئا. ∎ فى البداية هل ازدادت معدلات زيارة المصريين للعيادات النفسية؟ - أعتقد أن الإنسان المصرى ليس بتلك التفاهة أو الرفاهية التى تجعله يزور الطبيب النفسى من أجل بعض المضايقات فى الشارع أو بسبب صورة تصدر له من خلال شاشات التليفزيون.. إنه أكثر تحملا وصبرا من ذلك. ∎ ولكن هل تتفقين معى أننا أصبحنا أكثر اكتئابا وضيقا فى السنتين الأخريين؟ - عن نفسى أرى الموضوع أبعد من ذلك، فتلك الحالة العامة من الهزيمة للانكسار مصاحبة للمصريين من وقت هزيمة 7691 لأنه حين انهزم جمال عبدالناصر وهو الملقب بزعيم الأمة انهزمت الأمة معه وحتى بعد انتصار 3791 فرح المصريون، ولكن روح الهزيمة لم تفارقهم لأن من انتصر كان الجيش المصرى وليس الشعب المصرى ولم يلق الإعلام أو التاريخ الدور الاجتماعى الذى لعبه المواطن العادى فى الشارع وقت الحرب فلم يشعروا بالانتصار الحقيقى.. وحتى أثناء ثورة يناير شعر المصريون بالانتصار والزهو لأيام جعلت الشعب فى حالة نفسية رائعة، ولكن سرعان ما اختفت تلك الحالة بسبب ما عقب الثورة من أحداث.. ولذلك تلك الحالة ستستمر إذا لم يقم المصريون شعبا وقيادة بصناعة انتصار حقيقى معا يشهده العالم أجمع. ∎ وهل للإعلام دور فى تلك الحالة؟ - بكل تأكيد، دعينا نبدأ حكاية الإعلام منذ بدايته حين ظهر التليفزيون فى البداية لم يكن أكثر من أداة تسلية للناس واستمر هكذا سنوات وبمرور الوقت بدأ النظام يستخدمه فى توجيه العقول وحشد الجماهير معتمدا على أنه النافذة الوحيدة للمواطن المصرى، ومع مرور الوقت وتطور التكنولوجيا وانتشار الفضائيات وتعدد التوجهات والمصالح انقسم الإعلام إلى جهتين.. جهة فى أيدى النظام لزرع أفكار محددة وحشد الناس، والجهة الأخرى هدفها تحطيم تلك الأفكار وتخوين وشتم من يقومون بالحشد وظل المواطن فى المنتصف يستخدم الريموت كنترول ويتنقل بين هذا وذاك ومع انتشار الإنترنت أصبح للمواطن دور فعال وأصبح يمتلك إعلامه المستقل ويمتلك حرية القول والفعل وأصبح المواطن هو صانع الخبر وناقله، ولكن الإعلام لم يتعامل مع هذا على النحو الصحيح وظل يتعامل مع المواطن على أنه مجرد متلق ففقد تأثيره ومصداقيته عند الناس فظل الإعلام فى وادٍ والناس فى وادٍ آخر ولذلك، فهناك حالة هجر عامة لبرامج التوك شو والاتجاه إلى البرامج والمسلسلات الخفيفة. ∎ هل تشعرين بتلك الحالة من اللا فهم واللا رؤية التى تسيطر علينا جميعا؟ - مشكلة الشعوب العربية عامة أنها تفتخر بقولها: احنا شعب عاطفى.. ولا نريد التشبه بالحيوانات، فالحيوان فقط هو من تسيطر عليه عاطفته وغريزته، أما الإنسان فقد كرمه الله بنعمة العقل فأول كلمة وجهت من الله لنبيه اقرأ ومعجزة ديننا «كتاب» فكيف نفتخر بأننا شعوب عاطفية لا عقلانية.. ولهذا فقد تعودنا منذ عشرات السنين أننا لا نفكر نبحث عن قيادة تفكر لنا ونسير وراءها مغمضى العينين ولذلك حين حدثت الثورة وتنحى حسنى مبارك الأغلب الأعم من الناس انتابته حاله ذهول وصمت ورعب من المستقبل، لأن الذى تعودنا بإلقاء الحمل عليه ذهب ولم يبق لنا أحد وسبب الذعر والكره العام للإخوان لأننا شعرنا أنهم لا يجيدون التفكير أو أنهم يفكرون لجماعتهم وليس للشعب بأكمله، وحين ظهر الجيش فى الصورة ألقينا عليه بالحمل من جديد وتمسكنا به وفى رأيى لم يبذل الجيش أى مجهود فى كسب حب الشارع.. الناس فعلت هذا من تلقاء نفسها. وتضيف: برنامج باسم يوسف لم يوقفه الجيش أو القناة الناس هى من أوقفته لأنها لم تحتمل أى نقد لقائد السفينة الجديد خوفا من الغرق. ∎ التفكير فى المرحلة الحالية بحيادية ومنطق قد يدفعنا إلى الاعتراض والتغيير سنوات قادمة.. كيف نرد على دعاة الاستقرار؟ - وهنا قالت دعينى أسالك البحر أم الترعة أكثر استقرارا.. أجبت ببديهية الترعة.. ردت خطأ الترعة راكدة ومع مرور السنوات تصبح خطرا على الصحة العامة وحين يصبح هناك خطر جماعى يتلاشى الاستقرار، أما البحر فبرغم صخبه وأمواجه فمياهه صحية ودوام أمواجه دليل على صلاحية مياهه فهذا هو الاستقرار الحقيقى الصحى، ومصر عاشت سنوات طويلة فى ركود وبعيدة عن مواكبة التطور العالمى فالثورة كانت ضرورية حتى تبدأ تنتعش من جديد، فهذا الحراك السياسى والاجتماعى والحوارت العنيفة وانكشاف الأقنعة على حقيقتها ما هى إلا نعمة من الله جاءتنا قبل أن نتعفن ويستوجب بترنا من الجسد العالمى. ∎ ومن أين نبدأ حل المعضلة التى نعيشها الآن؟ - الحل يبدأ على مستويين.. المستوى الأول من خلال الإعلام باعتباره الأداة الوحيدة المتوفرة الآن لمحاولة تغيير المواطن العربى وليس المصرى فقط.. والمستوى الثانى وهو دور المواطن العربى تجاه نفسه وبلاده نبدأ بالإعلام: مشكلة الإعلام الآن تتلخص فى أنه يتكلم عن الناس وليس للناس، فنصيحتى للإعلاميين أن يتركوا الكراسى والاستديوهات وكفانا وكفاكم التنظير، فأنا أرى إبراهيم عيسى يتجول فى الأحياء الشعبية والجوامع والمقاهى يجلس مع الناس ويتحدث معهم وإليهم، وأرى محمود سعد فى بيوت الطبقة المتوسطة يبحث مشكلاتهم، ويسرى فودة بين الطلبة فى الجامعات وعماد أديب فى بيوت المثقفين الذى لا يعرف أحد عنهم شيئا ولميس الحديدى تبحث عن المشاكل الحقيقية للمرأة مع نساء حقيقيات ووجوه غير مكررة، وباسم يوسف أنصحه بترك السياسة قليلا والحديث عن سلوكيات المصريين وما تحويه من تناقضات وسخرية غريبة وقتها سيصل الإعلام للناس حقيقة وسيصبح أداة فى يد المواطن تجاه النظام لا العكس. ∎ وإذا أردت أنا أن أنجو بنفسى وأعدل من تفكيرى ماذا علىَّ أن أفعل؟ - وهذا هو المستوى الثانى للتغيير.. أن يغير المواطن العربى من تفكيره ولن يحدث هذا إلا بعد أن نعرف عيوب تفكيرنا الحالى وهى: أولا: أننا لا نمتلك القدرة على التفكير النقدى، فكل شىء فى الكون قابل للنقد، ولكننا هواة صناعة الآلهة منذ الأزل فيجب أن نكف قليلا عن ذلك ونعمل لغة المنطق فليس هناك شخص منزه كل ابن آدم خطاء وأى إنسان مهما كان وضعه قابل للنقد وإلا سيأتى يوم الذى نصنع فيه فرعونا جديدا حينها لا نلوم إلا أنفسنا. ثانيا: يجب أن يكون لدينا القدرة على التفكير الوسطى فنحن جيل تربى على أن أمينة رزق دائما تبكى وإسماعيل يس يضحك دائما، فمن الطبيعى جدا أن نصنف أن كل إخوانى إرهابى وكل من يتبع الجيش وطنى.. فالحياة ليست أبيض وأسود فقط فبينهما ألوان عدة ولكننا لا نسمح لعقلنا باستيعابها. ثالثا: نحن مرضى بالتفكير التعميمى أى أن كل مشكلة تواجهنا يصبح الإخوان مسئولين عنها وكل من ينتقد الجيش فهو خائن فيجب أن نحكم على كل إنسان وفعلة على حدة حتى يكون حكمنا صائبا. رابعا: التفكير العاطفى فنحن أفضل ناس تحب بلدها وقت الأزمة والخطر مع أنه من الطبيعى أن نحب بلدنا طوال الوقت بنفس القدر وأن نكف عن حبها بالكلام.. فلن يفيد البلد الأغانى الوطنية بقدر ما سيفيدها أن نتوقف عن إلقاء القمامة فى الشوارع. وأخيرا التفكير الإيجابى وهنا يجب أن ينظر كل منا لنفسه على أنه مواطن عالم أول وليس عالم ثالث، فحين يسافر العرب إلى الدول الأوروبية على سبيل المثال يلتزمون جيدا بتطبيق القانون ويصبحون مواطنين من طراز آخر، فالمشكلة فى نظرة كل منا إلى نفسه إذا تيقن بداخله أنه يستطيع صنع شىء عظيم سيصنعه بالتاكيد. وفى النهاية أحب أن أضيف أن الحل الأكيد والبداية الحقيقة تبدأ من الأطفال.. أطفال هذا اليوم هم النسبة المؤثرة فى هذا الوطن بعد 52 عاما، سواء إذا كانوا شعبا أو مسئولين وقبل أن نفكر فى الدستور والمرشح الرئاسى القادم يجب أن نبدأ التغيير الحقيقى الذى يعالج الأمراض الاجتماعية المتفشية والمتوطنة فينا مثل الواسطة والنفاق والفهلوة وكروتة الشغل والهمجية.. حقيقة أننا من أكثر البلاد التى تشهد طوابير يومية.. ولكن هناك حقيقة أخرى تقول كم من مواطن مات فى تلك الطوابير نتيجة سلوك الواقفين.. أبدأ بأطفالك وأطفال من حولك فمن المؤكد أن الدائرة ستتسع حتى تشمل القطر العربى.