من يعايش ما تواجهه المرأة الآن ونحن فى القرن ال12 من اضطهاد وتضييق خناق ورفضها كشخصية قيادية ريادية فى الحياة العامة بعد مرور آلاف السنين على تكريمها وتقديسها فى مصر الفرعونية يتوقع أن ترتقى المرأة مكانة أفضل فى وقتنا الحالى ولكن ما يحدث الآن هو شىء مختلف تماما، يجعله يتذكر ما قاله الشاعر نزار قبانى: لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية!!.. وحين يدعونا الغرب إلى احترام حقوق المرأة ويطالبنا بمراعاة النوع فى التنمية ولا يملك من يعرف تاريخ مصر إلا أن يردد ما قاله الشاعر وكم علمته نظم القوافى فلما قال قافية هجانى!!
اعتراض الكثير فى هذه الأيام على تقلد المرأة المصرية المناصب القيادية وعدم الاعتراف بها كقاضية ومحامية ورئيس جامعة بل والرفض القاطع لتوليها منصب رئيس الجمهورية.. أدى إلى مهاجمتها وتضييق الحصار عليها فى ميادين الثورة.. فعليهم أن يراجعوا تاريخ المرأة فى الحياة الفرعونية ليعرفوا إنجازاتها والمكانة التى حظيت بها فى عصور سميت «بالسحيقة»! فأهم القيم الإنسانية التى تستمد منها البشرية تراثها الإنسانى فى إجماله هى الاعتراف بأهمية دور المرأة بالمجتمع.
وحين يصدمنا الواقع المصرى بإنكار حقوق أساسية للمرأة يؤكد لنا التاريخ أنه كانت للمرأة فى عهد الفراعنة حقوق ومراكز لم تحصل عليها امرأة أخرى فى الحضارات المعاصرة وليس ثمة شعب قديم أو حديث قد رفع منزلة المرأة مثلما رفعها سكان وادى النيل فى مصر القديمة، فكانت المرأة تشارك فى الحياة العامة وتخرج بدون غطاء للشعر وتحضر مجالس الحكم بل وتتولى مقاليد الحكم.
وتمتعت المرأة بحقوق اجتماعية واقتصادية وقانونية وسياسية مساوية للرجل، فمصر قديما كانت البلد الوحيد بين بلدان حضارات الشرق القديمة التى وضعت للمرأة قانونا تتساوى فيه مع الرجل، ولا نتحدث عن بلدان أوروبا التى كانت قابعة فى ظلمات الكهوف وحين بزغ فجر الضمير ونشأت الأخلاق فى مصر كانت المرأة المصرية مواطنة سعيدة تعيش فى وطن يعترف بحقوق المواطنة وكانت المساواة بين الجنسين فيه أمرا طبيعيا تماما منذ القدم. وكان للبنات نصيب فى التعليم مثل الأولاد فكن يتعلمن الكتابة والقراءة الهيروغليفية والأدب المصرى القديم، كما تمتعت المرأة بحقوقها القانونية فى التملك أو الزواج والإرث فتساوت مع الرجل فى الميراث وكان بإمكانها أن تدير ممتلكاتها الخاصة والعامة، وأيضا شغلت العديد من المهن والحرف، مثل منصب قاض ووزير، ودخلت مجال الطب والجراحة وشغلت مهنة سيدة أعمال. وقد عرف المصريون مبدأ المساواة بين جميع المواطنين فكان المصريون جميعا أمام القانون سواء.
حتى إن ديانة المصريين القدماء ساوت بين الإلهة والآلهات. بل إن آلهة الحكمة كانت فى صورة امرأة، فعبد المصريون القدماء الآلهات كرموز للذكاء والإخلاص والحب مثل الآلهة «إيزيس وحاتحور وساخمت». والارتباط بين الإلهة والإله فى الديانة المصرية كان ارتباطا مقدسا ويرمز إلى نظام الكون لذلك أصبح الزواج بين المصريين عقدا مقدسا ومهما ويشير إلى المشاركة والإخلاص والمساواة.
والدليل على احترام المصرى القديم للمرأة ودورها الألقاب التى منحت لها والتى حملت فى معناها قدرا كبيرا من الاعتزاز ومن هذه الألقاب لا الحصر: الحامية أو المنقذة، العالمة عارفة الأشياء، قوية الذراع أى ذات القبضة القوية فى الحكم، القابضة على الأرضين أى القطرين الجنوب والشمال، عظيمة القوة، الحاكمة، سيدة التجلى صاحبة الإشراقات، ربانية الطلعة، منعشة القلوب، قدسية الإشراق، المعبودة الطيبة، مقيمة الشعائر أى الكاهنة، الملكة، الرئيسة، الصورة الرائعة للمعبود، سيدة البهجة، عظيمة الاحترام، طاهرة اليدين.
ووصلت المرأة فى العصر الفرعونى إلى مناصب مهمة فى الدولة فنجد أسماء وألقابا فى أوراق بردية من عصر الأسرة السادسة عن سيدة تدعى «نبت» فى عهد الملك بيبى الأول تفيد بتوليها منصب الوزيرة القاضية. أيضا نجد اسم طبيبة مصرية اسمها «بسخت» خلال الأسرة الرابعة، ومن الأوراق يمكننا أن نستنتج أنها قد كانت من أحسن وأقرب أطباء الفرعون. فمنذ عهد الدولة القديمة استطاعت الفتيات أن يسلكن مجال تعلم الطب والجراحة وهذا هو المثال الأول فى العالم للمرأة الطبيبة، كما استطاعت نساء مصر إثبات ذاتهن فى الحياة الاجتماعية والثقافية أيضا، فنجد مثلا كثيراً منهن ألقابهن تدل على وظيفة الكاتب وهذه الوظيفة فى بعض الأوقات كانت تصل بصاحبها إلى مناصب حكومية عالية مثل وظيفة المحاسب فى القصر الفرعونى أو مدير المخزن، كما عملن فى التجارة وإدارة مخازن المعابد، وكانت أبواب الالتحاق بسلك الكهنوت مفتوحة أمام المرأة بعد أن تتلقى قسطا من التعليم الدينى.. كل هذه الوقائع تشير إلى استقلال المرأة المصرية فى العصر الفرعونى ومدى حقوقها فى جميع مجالات الحياة.
وتمكنت المرأة فى العصر الفرعونى من العمل فى السياسة وتسلم مقاليد الحكم والتغلب على مخاطر السلطة بذكاء وحكمة. وفى تاريخ مصر القديمة العديد من الأمثلة لملكات ووزيرات استطعن بذكائهن تحقيق الازدهار والرخاء لمصر، منهن من حكمت بمفردها ومنهن من شاركت فى الحكم أو من كانت تدير الحكم من خلال الوريث الشرعى صغير السن وهؤلاء لا حصر لهن، فكن يقمن بإدارة الحكم حتى يبلغ الوريث السن المناسبة حفاظا له على كرسى العرش. مثل الملكة «حتب حرف» أم الملك خوفو الذى بنى الهرم الأكبر فى الأسرة الرابعة والتى تولت الحكم بدلا من ابنها الصغير حتى بلغ السن المناسب.
ولا يجب أن ننسى دور الملكة «اخ حوتيب» أم الملك أحمس طارد الهكسوس فى أوائل الأسرة الثامنة عشرة، والتى ساندته وكان مشهور عنها أنها أنقذت مصر خلال حروب التحرير ضد الهكسوس وأنها قامت بحشد القوات المصرية وسحق تمرد حدث فى صعيد مصر فى هذه المرحلة الحرجة من تاريخها.
ويحفل التاريخ القديم بأمثلة كثيرة تظهر حرص الملوك على استشارة زوجاتهن الملكات فى الأمور العامة، وبدورها كانت الملكة تكفل للقصر والمعبد أنشطة تكميلية وضرورية لا غنى عنها. ومنهن ملكات كانت تحكم مصر بجانب أزواجهن وكان لهن دور كبير فى التأثير على سياسة حكم أزواجهن، مثل الملكة «نفرتيتى» زوجة الملك أخناتون فرعون الأسرة الثامنة عشرة الشهير. شاركت الملكة نفرتيتى زوجها فى عبادة الديانة الجديدة وهى عبادة آتون، وأنجبت منه ستا من البنات. وبالحديث عن الملك أخناتون لا ننسى ذكر أمه الملكة «تى» زوجة الملك أمنحتب الثالث والد أخناتون والتى تميزت بشخصيتها القوية وتسلطها للحكم.
وأيضا الملكة «نفرتارى» الزوجة الرئيسية والمفضلة للملك العظيم رمسيس الثانى الذى عاش فى عصر الأسرة التاسعة عشرة قبل الميلاد، وأنجبت نفرتارى كثيرا من الأولاد لرمسيس لكن لم يعمر أحد منهم مثل أبيه.
كذلك استطاعت المرأة المصرية فى التاريخ الفرعونى الدخول فى العديد من ميادين العمل المختلفة حتى وصلت الى اعتلاء عرش مصر، ومنهن: الملكة «ماريت بايت» من الأسرة الأولى حوالى 2950ق.م، وترتيبها سادس ملك لهذه الأسرة. وتذكر بردية تورين الملكة «خنت كاوس» التى حكمت مصر لمدة عامين حوالى عام 2394ق.م، فى نهايه الأسرة الرابعة وكانت آخر ملوكها. وتأتى الملكة «نابت إقرت» أم الملك بيبى الأول وقد حكمت مدة عامين. أما الملكة «سبك كارع» أو «سبك نفرو» فحكمت مدة أربعة أعوام خلال الأسرة الثانية عشرة حوالى 1985ق.م، وكانت ثامن ملك لهذه الأسرة.
وتأتى كأعظم شاهد على دور المرأة المميز وقدرتها على الإدارة والحكم على الرغم من كثرة الرافضين لوجودها كامرأة على كرسى العرش الملكة «حتشبسوت» التى حكمت مصر بمفردها اثنين وعشرين عاماً فى الأسرة الثامنة عشرة وكان ترتيبها السادس فى الحكم لهذه الأسرة، حوالى 1472ق.م. وتعتبر من أعظم ملكات مصر الفرعونية وأشهر أسماء النساء التى عرفها التاريخ المصرى القديم؛ ورغم أنها واجهت فى البداية مشاكل مع الشعب حيث كان يرى أغلب الناس أنها امرأة ولا تستطيع حكم البلاد ولذلك كانت تحاول دائما أن تلبس وتتزين بملابس الرجال لإقناع الشعب بأنها تستطيع الحكم. إلا أن البلاد فى عهدها نعمت بالكثير من الرخاء والازدهار، حيث اهتمت بالأسطول التجارى المصرى فأنشأت السفن الكبيرة؛ واتسم عهدها بالرفاهية والسلام فى مصر، وقامت بالعديد من الحملات العسكرية منها حملة تأديبية على النوبة فى بداية حكمها، وحملة تأديبية على سورية وفلسطين، مضافا إليهما حملة ضد تمرد فى النوبة. وأيضا نشطت حركة التجارة فى عهدها والتى كانت فى حالة سيئة خصوصا فى عصر الملك تحوتمس الثانى. فأرسلت العديد من البعثات التجارية منها بعثة بلاد بونت؛ وبعثة أسوان. ومن أبرز أعمالها إعادة استخدام قناة تربط بين النيل عند نهاية الدلتا بالبحر الأحمر، حيث قامت بتنظيف هذه القناة بعد أن حفرها المصريون أيام الدولة الوسطى وذلك لتسيير أسطول مصر البحرى بها ليخرج إلى خليج السويس وبعدها إلى مياه البحر الأحمر. كما أعادت العمل فى مناجم النحاس فى شبه جزيرة سيناء.
وكان لغيرها من الملكات دور بارز فى الحياة الفرعونية فلا يجب أن ننسى دور الملكة «تا أوسرت» والتى حكمت لمدة عامين خلال الأسرة التاسعة عشرة، حوالى 1189ق.م، وكان ترتيبها الثامن فى الحكم لهذه الأسرة.
وأشهرهن على الإطلاق وآخرهن هى الملكة «كليوباترا السابعة» التى اعتلت العرش وحكمت مصر لأكثر من عشرين عاما حوالى 51ق.م، وكانت آخر الحكام البطالمة فى مصر أصبحت بعد ذلك بطلة للروايات والأفلام، فقد تفوقت على كل من سبقوها فى الذكاء والطموح.. كما كانت شديدة الجمال وكانت تتحدث عدة لغات وسبب تعلمها اللغات لكى لا تحتاج إلى مترجم فى حضرتها مع الملوك.
كل هذه النماذج وغيرها على مر العصور تؤكد بما لا يدع مجالا للشك المكانة التى كانت تحظى بها المرأة فى مصر عبر التاريخ.. فهل من المعقول أن يأتى من يطالب بتراجع مكانة المرأة فى عصرنا الحالى؟!