«كل إنسان لديه هويات متعددة، أنا مصرى عندما يضطهد المصريون، وأسود حين يضطهد السود، ويهودى حين يضطهد اليهود، وفلسطينى حين يضطهد الفلسطينيون».. هكذا كتب شحاتة هارون فى كتابه «يهودى فى القاهرة» «دار الشروق» الذى يروى فيه مذكراته كمصرى يهودى يسارى رفض أن يغادر مصر فى ظل أسوأ ظروف يمكن أن يتعرض لها مواطن بسبب ديانته، وصمم على البقاء مع عدد قليل من المصريين اليهود الذين نجحوا فى مقاومة هذه الظروف.. توفى شحاتة هارون ومعظم هؤلاء اليهود قبل أن يظهروا فى فيلم «عن يهود مصر» الذى صنعه المخرج الشاب أمير رمسيس وعرض مؤخراً، قبل الضجة الهائلة التى تسببت فيها تصريحات الإخوانى عصام العريان ودعوته لليهود المصريين الذين هاجروا لإسرائيل بالعودة إلى مصر. البعض رد على تصريحات العريان بأن الأغلبية الساحقة ممن رحلوا قد ماتوا الآن أو بلغوا من العمر أرذله، وأن معظم اليهود المصريين لم يرحلوا إلى إسرائيل ولكن إلى أوروبا وبلاد أخرى.
استطاع أمير أن يصل إلى بعض هؤلاء، سواء القلائل منهم الذين فضلوا البقاء فى مصر رغم كل شىء أو الذين يعيشون فى أوروبا، والتقط قصصهم المحزنة التى تكشف الكثير عن الأخطاء السياسية والإنسانية التى ارتكبت فى حق بعضهم.
منذ نحو عشر سنوات كشف فيلم وثائقى بعنوان «أنس بغداد» للمخرج السويسرى العراقى سمير نقاش عن الجريمة الكبرى التى ارتكبها النظام العراقى فى بداية الأربعينيات بتهجير اليهود العراقيين إلى ما سوف يصبح دولة إسرائيل بعد سنوات، بالرغم من أن معظمهم لم يكن راغباً ولا مستعداً لترك وطنه الذى عاشوا فيه لآلاف السنين.. النظام العراقى آنذاك، تحت حكم رشيد عالى الكيلانى، كان متحالفاً مع هتلر، ويعيش تحت وهم أنهم سيرسلون باليهود إلى فلسطين ليقضوا عليهم هناك، أما مصر عبدالناصر فكانت تعانى من هلع الشوفينية والعداء للأجانب تحت تأثير النزعة القومية والرغبة فى محو آثار الاستعمار، خاصة عقب هزيمة 1948 التى منى بها الجيش المصرى أمام العصابات اليهودية فى فلسطين، وبالأخص عقب عدوان 1956 الذى شاركت فيه إسرائيل بجانب فرنسا وإنجلترا، وفى الحالتين تسبب العداء المبالغ فيه لكل يهودى، حتى لو كان عراقيا أو مصرياً مخلصاً، إلى مزيد من الفشل فى مواجهة إسرائيل.. حتى ذلك الوقت كانت البلاد العربية، من اليمن إلى المغرب مروراً بالعراق وتونس ومصر، هى المكان الأكثر أمانا ليهود العالم الذين كانوا يضطهدون فى أوروبا وغيرها لعشرات القرون، وهو الاضطهاد الذى وصل لذروته وتجسده الأخير فى المحرقة النازية.
محمد نجيب يحيى رئيس الطائفة اليهودية
كيف، بقدرة قادر، وخلال سنوات قليلة جداً، تحولت أوروبا وأمريكا إلى حماة اليهود فى العالم، وتحول المسلمون إلى أكبر أعداء لليهود؟! - الإجابة السهلة عن السؤال هى أن اليهود تجمعوا من كل بقاع الأرض وقتلوا العرب وطردوهم من ديارهم واحتلوا فلسطين، وهى أمور صحيحة بالطبع، ولكن السؤال التالى هو «ما الذى فعلناه لنمنع هذا المخطط؟ وما الذى فعلناه وساهم من حيث لا نقصد فى نجاحه؟».
- هذه قصة يجب أن تروى، ويجب أن يعلم تفاصيلها الجيل الجديد، وأهم شىء يمكن أن نعلمه ونتعلمه من أفلام مثل «أنس بغداد» و«عن يهود مصر» هو الكيفية التى تحولنا بها من رواد الحضارة والتسامح إلى رهائن للتطرف والإرهاب والتخلف الإنسانى.
يلتقى «عن يهود مصر» بعدد من الشخصيات التى تروى هذه القصة من وجهات نظر مختلفة، منهم مؤرخون ومعاصرون للأحداث مثل رفعت السعيد ود.محمد أبوالغار وأحمد حمروش وعصام فوزى، ومنهم مصريون يهود هاجروا إلى أوروبا، خاصة فرنسا، ومنهم من بقى فى مصر رغم كل شىء.
واحد من هؤلاء هو ألبرت أريا، الذى كان يتجاوز الثمانين من العمر عندما ظهر فى الفيلم، والذى تعرض للسجن وسحب الجنسية المصرية منه ولكنه أصر على البقاء، منضما إلى صفوف اليسار المصرى، ومدافعا عن القومية العربية، ورافضا للصلح مع إسرائيل، وهو يروى بكثير من الأسى كيف اضطهده نظام ناصر اليسارى القومى، وكيف استعاد جنسيته المصرية فى عهد السادات اليمينى عقب معاهدة «كامب ديفيد» التى كان يعارضها!
فى «عن يهود مصر»، كما فى «أنس بغداد»، يتبين كيف أن الأنظمة العربية كانت تكره اليساريين أكثر من كراهيتها لإسرائيل نفسها، ويظهر ذلك من خلال قصة ألبرت أريا كما يظهر من خلال قصة هنرى كورييل، الذى طرد من مصر رغم وطنيته، وحتى بعد أن أبلغ نظام عبدالناصر عن خطة العدوان الثلاثى قبل وقوعه، رفض عبدالناصر أن يعيد له الجنسية المصرية أو يسمح له بالعودة لمصر مجددا «وهذه القصة مؤكدة برواية ثروت عكاشة، أحد الضباط الأحرار، ووزير الثقافة السابق، والوسيط المباشر بين عبدالناصر وكوريل، فى مذكراته المنشورة منذ سنوات طويلة».. مبدئيا ليس الهدف من توجيه هذا اللوم أن ندين عبدالناصر، ولكن أن نذكر حقيقة ما حدث بغض النظر عن الأسباب والمبررات وراء تلك القرارات التى ساهمت فى الإساءة إلى القضية العربية أكثر مما ساهمت فى خدمتها، والمدهش أننا فى فيلم «عن يهود مصر» نلتقى عدداً من اليهود اليساريين الذين يدافعون عن عبدالناصر ومواقفه، حتى بالرغم من أنها أدت إلى طردهم واضطهادهم، وهم لا يختلفون فى ذلك عن موقف اليسار المصرى عموما الذى يدافع عن عبدالناصر بالرغم مما تعرض له النشطاء اليساريون فى عهده، ويكشف الفيلم أيضاً، بطريقة غير مباشرة، عن الفارق بين موقف الشيوعيين المصريين الذين اضطهدوا فى كل العهود وبين الإخوان المسلمين الذين لم يتعرضوا لاضطهاد حقيقى سوى فى عهد عبدالناصر، ومع ذلك يقدمون أنفسهم باعتبارهم الفئة الوحيدة التى تعرضت للاضطهاد، فعقب العدوان الثلاثى مثلا تطوع الشيوعيون، حتى المعتقلون منهم، للمشاركة فى المقاومة فى الوقت الذى كان يهلل فيه المعتقلين من الإخوان المسلمين فرحا وشماتة فى عبدالناصر!.. يشير الفيلم أيضاً إلى دور الإخوان فى تصعيد هذا العداء للمصريين اليهود، فبدلاً من مهاجمة الاحتلال الإنجليزى والملك فاروق، قاموا بشن الهجمات على اليهود وأحرقوا محلاتهم نهاية بتفجير حارة اليهود نفسها عام 1947، وهو ما ساهم بالطبع فى خدمة إسرائيل وتحويلها إلى ضحية للتعصب الدينى الإسلامى.. وهى قصة أخرى تستحق أن تروى، فى فيلم آخر ربما!.. يكشف فيلم «عن يهود مصر» كما ذكرت كيف أن العداء لليهود لم يتخذ شكلة الحاد إلا عقب إعلان إسرائيل فى 1948 ثم العدوان الثلاثى، ويروى عن طريق شخصياته من اليهود والمؤرخين كيف كان اليهود مثل الأقباط جزءا من نسيج المجتمع المصرى، يحظون بحقوق المواطنة كاملة ويشاركون فى الحياة العامة ومناصب الدولة العليا، وكيف كانت الحركة الصهيونية تحظى بحرية العمل والإعلان عن نشاطاتها فى مصر، وكيف أن سكرتير سعد زغلول ليون كاسترو الذى شارك فى الوفد المصرى الذى ذهب للمطالبة بالاستقلال كان من مؤسسى الحركة الصهيونية فى مصر، قبل أن تتخذ شكلها السياسى الاستعمارى، وكيف أن لطفى السيد رئيس جامعة القاهرة شارك فى الاحتفال بتأسيس الجامعة العبرية فى القدس عام 1952.. ويؤكد الفيلم حقيقة أن معظم اليهود الذين تم تهجيرهم من مصر عقب العدوان الثلاثى لم يذهبوا إلى إسرائيل، طبعا لا ينفى ذلك أن بعضهم هاجر إلى إسرائيل عن اقتناع بالصهيونية ووهم «أرض الميعاد»، وربما عن كراهية للعرب أيضا، ولكن مرة أخرى لا يتناقض ذلك مع حقيقة أن هناك يهودا لم يكونوا راغبين فى الهجرة إلى إسرائيل أو ترك أوطانهم الأصلية، وأن بقاء هؤلاء فى بلادهم كان من شأنه أن يخدم القضية العربية ويهدم الكثير من مزاعم إسرائيل.
هنرى كوريل
وبجانب عرضه التاريخى يحتوى «عن يهود مصر» على بعض القصص الإنسانية المؤثرة، والتى يصلح بعضها كموضوع منفصل لأفلام وثائقية بل وروائية، مثل قصة هنرى كوريل وابنه غير الشرعى آلان جريش، رئيس تحرير صحيفة «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية، الذى لم يكتشف بنوته لكوريل إلا شفى مرحلة متأخرة من حياته، أو قصة جويس بلو، اليهودية حفيدة أحد ضحايا النازية، التى ولدت فى مصر وعشقتها، وانضمت إلى الحركة الشيوعية وتبنت القضية العربية ضد إسرائيل حتى بعد أن اعتقلت فى مصر ثم طردت منها، وحتى بعد أن أعلن الشيوعيون المصريون أنهم لا يسمحون لليهود بالانضمام للحركة، ظلت على علاقة بهم وساعدتهم من الخارج، أو قصة ألبرت آريا الذى أشرت إليه من قبل، والذى رفض مغادرة مصر تحت أى ظرف حتى بعد اعتقاله وتهديده بالقتل!
يروى «عن يهود مصر» قصصا عديدة تقول أشياء كثيرة عن التاريخ وعن البشر، كلها تستحق أن نتأملها ونعيد البحث والتفكير فيها، فلا أمل فى أمة لا تراجع نفسها وتتعلم من أخطائها، خاصة فى تلك الأوقات العصيبة التى نوشك فيها أن نرتكب أخطاءً وجرائم أبشع!