كانت المرة الأولى التى يركبون فيها أتوبيس المدرسة، بعد أن ارتدوا ملابس نظيفة، كأى طفل ينتظر العيد.. تأتا وعسلية وبلبل و71 طفلا آخرين من الأطفال الذين أمضوا شهورا وسنوات فى حضن الشارع، فازوا بالمشاركة فى المعسكر الصيفى لمدرسة الشويفات فى 6 أكتوبر. 02 يوما يقضونها بعيدا عن الشارع وعن بيوتهم التى هربوا منها. سيلعبون ويسبحون ويأكلون وينامون فى أمان، مع أطفال المدرسة الشهيرة الذين لم يروهم من قبل. لكن مفاجآت أخرى كانت بانتظارهم هناك، كما كان طلاب المدرسة بانتظار لحظة وصول أتوبيسهم بأطفال لم يركبوه من قبل، وفى عقولهم ألف سؤال وسؤال عن القادمين وحياتهم، وكيف سيقضون معهم هذه الأيام العشرين.. «صباح الخير» عاشت معهم تلك اللحظات.. وشاركتهم يوميات مختلفة وخاصة جدا. خلال جلسات التحضير قبل بداية المعسكر، نصح الكابتن رياض المشرف على المعسكر من الجمعية المصرية لبناء المجتمع طلبة المدرسة بألا يسألوا الأطفال عن عائلاتهم أو تاريخهم، ونصائح أخرى حتى تسير الأمور على مايرام. خبرته تلك هى حصيلة عمله مع الأطفال الذين يعيشون فى الشارع منذ 9991، وخلال السنوات الأخيرة التى تردد فيها هؤلاء الأطفال على الجمعية، مع أطفال آخرين، واستطاع أن يجذبهم إلى أنشطة الرسم والتلوين حتى ملأت لوحاتهم جدران مقر الجمعية فى منطقة الملك الصالح بمصر القديمة. أما الأستاذ محمد رزق الله مدرس الفيزياء الذى يرعى المعسكر فى المدرسة فأعطى للطلاب خبرة العام الماضى، الذى نظمت فيه المدرسة أول تجربة لهذه الفكرة، وصعوبة الأيام الأولى وقتها، التى سرعان ماتحولت إلى خبرات فريدة وصداقات مختلفة، ويوميات استطاعت أن تعيد بعض الأطفال إلى أسرهم، بعد انتهاء المعسكر. عسكر وحرامية لما طلعت على المسرح ما عرفتش أعمل حاجة، همه قدروا بسرعة يفكروا ويمثلوا بكل ثقة من غير ما يخافوا، لما مدرب المسرح قال كل اتنين يمثلوا مشهد، أحمد بلبل مثل أنه بوليس وعسلية هو الحرامى» قالها عمر إمبابى من طلبة الصف الثانى الثانوى بالمدرسة. عمر يحضر للمعسكر صباحا ويعود لبيته فى الرابعة عصرا بعد أن يتناول الغذاء مع كل المشاركين «كنت فاكرهم هايكونوا زعلانين، لقيتهم فرحانين وروحهم حلوة وطيبين» قالها عمر الذى ينوى بعد انتهاء المعسكر فى أن يتطوع فى العمل بالجمعية حتى يرى أصدقاءه الجدد ثانية. أما حسين أو عسلية كما يسميه زملاؤه، فيحكى عن يومياته خارج المعسكر قائلا: بنام فى النافورة اللى فى ميدان المنيل بالليل أنا وعيال تانية، والصبح الراجل اللى بيشغل النافورة بيجى يصحينا، كل واحد يروح يشحت أو يمسح عربيات عشان ناكل ونشترى هدوم نلبسها، التى شيرت ب01 جنيه، والبنطلون ب51 اشترتهم عشان آجى المعسكر بهدوم جديدة، وقالوا إنهم هايدونا هدوم تانية. عسلية الذى يبلغ 31 سنة ويبدو فى سن الثامنة ، قضى 7 سنوات فى الشارع، ويعرف مكان بيته فى بولاق، ويقول أنه ترك البيت لأن والده ووالدته كانوا بيضربوه، وإن حكى لى زملاؤه قصة مختلفة عن تلك التى حكاها لى عن والده ووالدته. لكنه كأغلب أطفال الشارع يعرف طريق الجمعيات الأهلية التى تقدم لهم خدمة الاستقبال النهارى، ويكمل: ساعات بنستحم فى البحر-النيل-وساعات نروح الجمعية نستحم ونغسل هدومنا وناكل وننام ونلعب لغاية ماتقفل الساعة 5 نرجع الشارع، وفى العيد بتجيب لنا هدوم وتودينا لأهلينا نقعد معاهم وبنمشى بعد العيد. «ذكاؤهم يفوق الطفل الذى يعيش داخل أسرته لأن الظروف التى يعيشونها فى الشارع تجبرهم على التصرف بسرعة فى المواقف التى يواجهونها» هكذا ترى سماح حسين مديرة الجمعية المصرية لبناء المجتمع. ورغم أنهم يذهبون لمراكز الاستقبال النهارى التابعة للجمعيات الأهلية، من أجل تناول وجبتى الإفطار والغداء، والاستحمام وغسل ملابسهم، والنوم أحيانا فى أمان، بالإضافة لممارسة الأنشطة المختلفة، فالبعض منهم يكسب نحو 05 أو 06جنيها فى اليوم الواحد من الشحاتة أو مسح السيارات أو غيرها، فهو ليس بحاجة للطعام أو الملابس من مراكز الاستقبال. ولهذا تراهم سماح بحاجة أكثر لمن يستمع لهم بإنسانية وآدمية، ومن يقول للواحد منهم «مالك ويطبطب عليه» ويخفف عنه مايعانيه من الاستغلال الجنسى والضرب والإهانة وتناول المخدرات غصبا فى الشارع من البلطجية ومن ملاحقة الأمن لهم. العباقرة الصغار رامى حلوة بالصف الثانى الثانوى بالمدرسة يرى أنه تعلم من عسلية وبلبل وتأتأ وغيرهم إن «مش كل الناس محظوظة، وساعات اللى حظه أقل بيكون عبقرى، ويكمل: لما واحد اتعور امبارح واحنا بنلعب كورة، عسلية قال ماحدش يلمس دمه عشان ممكن يجى له إيدز، ماكنتش فاكرهم بالذكاء ده ولا عارفين المعلومات دى» ويعترف رامى خلف من طلبة المدرسة: همه اللى كسروا الحاجز اللى بينا، أنا أصلا مش اجتماعى لقيتهم بيكلمونى، ولقيت نفسى بعاملهم زى أصحابى. أما مروان أو بلبل كما يناديه أصدقاؤه، فعمره 71 سنة، ترك المدرسة فى الصف الأول الإعدادى لأن والده كان يرغب فى أن يساعده فى عمله فى ورشة الميكانيكا، لكنه ترك العمل معه وهرب إلى الشارع بعد أن ضربه الأب بسلك الكهرباء، ومشى من المطرية حيث كان يقيم فى المنيل، وهناك تعرف على عسلية وتأتأ وغيرهم، وعاش معهم سنة تقريبا. «أنا باعرف أقرأ وأكتب، لكن نفسى أتعلم الإنجليزى زى الطلبة اللى هنا، هذه هى الأمنية التى تمناها بلبل بعد أن مكث أياما بالمعسكر. وأكمل: لما عرفت الجمعية من عسلية، شجعونى أرجع أعيش مع عمى، وبعدها رحت عشت مع أخويه الكبير، اللى بيشارك مع الألتراس فى المظاهرات، وكنت باروح معاه ساعة أحداث مجلس الوزراء ومحمد محمود، وكنا بنجرى العساكر ورانا، زى ماكانوا بيجرونا وراهم طول ما احنا موجودين فى الشارع، ويودونا قسم مصر القديمة، لكن أنا حاسس إن الثورة مانجحتش.. تتابع دينا سلام الطالبة بالصف الثالث الثانوى بالمدرسة حديث بلبل قائلة كنت خايفة وبأقول لنفسى هاتعامل معاهم إزاى، لكن لما قربت منهم لقيتهم طيبين وموهوبين فى الرسم والغناء وحاجات كتير، وبقيت اتضايق إن ده كله بيضيع فى الشارع، بعد ما لقيتهم بيتغيروا وبدأت أسمع منهم كلمة شكرا ولو سمحت، وبعد أيام حسيت ان أصواتهم بقت مش عالية وماباقوش يتخانقوا مع بعض زى أول يومين محتاجين حب وطبطبة 05 ألف جنيه رصدتها مدرسة الشويفات للمعسكر وأنشطته، التى من بينها تعلم القراءة التى تدرسها أبلة سهير المشرفة على تعليم مرحلة رياض الأطفال بالمدرسة، بالإضافة إلى الأنشطة الرياضية والرسم والمسرح وورش إعادة التدوير، وإيجار الشقتين واشتراك مركز الشباب وغيرها، وما تبقى منها سيقدم جوائز وملابس للأطفال..ومع هذا يرى المشرف على المعسكر محمد رزق الله أن مايحتاجه الأطفال بالفعل هو الحب والطبطبة، التى يمكن أن تغير الكثير، كما حدث فى معسكر العام الماضى، ويقول: لما شاركت فى الثورة اتعرفت على الأطفال دول فى ميدان التحرير ولقيتهم بيتشعلقوا فيه لما بس أطبطب عليهم، وفكرت فى إن الطلبة لازم تقرب منهم زى أنا ما قربت، عشان نقرب الفجوة اللى مابين الأطفال والشباب فى مصر، زى ماكنا أيام الميدان، ال02 يوم ممكن فعلا يغيروا طفل، ويخلوه يعرف يتعامل مع الناس كويس، ولو كل مدرسة من ال09 مدرسة دولية، شاركت معانا ممكن أغلب الأطفال دى ترجع بيوتها.. بعد المعسكر يعود بعض الأطفال إلى بيوتهم، فمن بين 81 طفلا عاد 4 لبيوتهم، بينما أمضى 11 طفلا ثلاثة أو أربعة أيام فى بيته ثم تركه للشارع مرة أخرى، فالمعسكر يساعد من لديه الرغبة فى العودة للبيت، على التأقلم للحياة مع الآخرين، فيحن لجو الأسرة ودفء الحياة مع الأهل.