رشحنى الشاعر الكبير والروائى والكاتب المسرحى عبدالرحمن الشرقاوى لشغل منصب مدير عام مؤسسة «روزاليوسف».. حدث ذلك فى 15 أكتوبر عام 1972.. وكنت يومها أشغل منصب رئيس تحرير مجلة «صباح الخير» بالاشتراك مع أستاذى الفنان التشكيلى حسن فؤاد.. ودهش يومها الدكتور محمد عبدالقادر حاتم نائب رئيس الوزراء للثقافة والإعلام، وقال للأستاذ عبدالرحمن الشرقاوى: هل يعلم لويس جريس أنه باشتغاله مديرا عاما سوف يفقد صفته الصحفية؟!
وبأمانة شديدة نقل لى عبدالرحمن الشرقاوى رأى الدكتور حاتم، وكان ردى بسيطا: قل للدكتور حاتم أننى أعلم ذلك، ولكن «روزاليوسف» ليست مؤسسة إدارية ولكنها أسرة صحفية يتكاتف أبناؤها لتنجح «روزاليوسف» المجلة وبقية إصدارات المؤسسة.
فالسيدة التى أنشأت مجلة «روزاليوسف» أولى المجلات السياسية فى العالم العربى لم تكن تجيد القراءة والكتابة ولم تذهب إلى مدرسة، ولم تتخرج فى جامعة، ولكنها أحبت الفن وأرادت أن تدافع عنه فأنشأت مجلة وأطلقت اسمها عليها.
وكانت يومها أعظم ممثلة مسرحية فى مصر ولقبها النقاد ب «سارة برنار الشرق»، وكانت سارة برنار أعظم ممثلة مسرحية فى فرنسا وأوروبا.
ومازالت «روزاليوسف» أولى المجلات السياسية فى العالم العربى، كما أن «صباح الخير» أصبحت أولى المجلات الشبابية فى العالم العربى.
واكتشفت فاطمة اليوسف أن الدفاع عن الفن والفنانين هو دفاع عن المستقبل وعن مصر، فأحاطت نفسها بأعظم الكتاب والمبدعين فى مصر ليكتبوا فى صفحات «روزاليوسف»: عباس محمود العقاد ومحمد التابعى وهيكل وعلى ومصطفى أمين وسيد قطب ود. محمود عزمى.
وكان صلاح حافظ وإحسان عبدالقدوس وأحمد بهاء الدين وفتحى غانم وكامل زهيرى ومحمد عودة وأحمد عباس صالح وفيليب جلاب وفتحى خليل وعبدالستار الطويلة وآخرون يكتبون فى «روزاليوسف» ويبدعون فى «صباح الخير»، ولم تعد مؤسسة «روزاليوسف» تدافع عن الفن والفنانين، بل تدافع عن مصر وأوجاع مصر وآلام المصريين.. رغبة فى الاستقلال وتحرير الوطن العربى ثم الأفريقى والآسيوى وأمريكا اللاتينية.
تذكرت كل ذلك عندما دعانى عبدالرحمن الشرقاوى فى 15 أكتوبر عام 1927 ليسلمنى خطاب تعيينى مديرا عاما للمؤسسة.
وبعد أن وقعت على الخطاب بالاستلام نظر عبدالرحمن الشرقاوى إلى وجهى وركز نظره فى عينى وتحدث بجدية تامة:
- لويس يا جريس عايزك تعمل حسابك فى كل قرار تتخذه أن تراعى العدالة الاجتماعية. ابتسمت ثم ضحكت فنهرنى قائلا:
- بتضحك ليه أنا لا أهزر!
قلت له: أستاذ عبدالرحمن العدالة الاجتماعية كلمة جميلة، ولكنها ليست شيئا ملموسا يمكن تطبيقه.. إنها كلمة طيبة تريح كاتبها وقارئها، ونحن نكتبها لنعطى القارئ أملا فى بكره لا أكثر ولا أقل.
نهرنى عبدالرحمن الشرقاوى: لويس إننى لا أهزر.. هذا أمر من رئيس مجلس الإدارة عند اتخاذ أى قرار وقبل إصداره يجب مراعاة العدالة الاجتماعية بين العاملين فى مؤسسة «روزاليوسف».. مفهوم!
رأيت الغضب فى عينى عبدالرحمن الشرقاوى وقلت فى بالى: بلاش يا واد نبدأ العمل فى المنصب الجديد بالاختلاف، لذلك قلت: أستاذ عبدالرحمن أعدك أن أضع مفهوم العدالة الاجتماعية نصب عينى عند اتخاذ أى قرار، وعلى فكرة أنا رايح أعرض عليك أى قرار قبل إصداره، وسوف نتفاهم فى تحقيق العدالة الاجتماعية.
قال ضاحكا: اتفقنا يا لويس روح مكتبك وابدأ العمل على بركة الله.
ولا أخفى عليكم أننى خرجت من مكتب الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوى، وأنا غير مقتنع بحكاية تطبيق العدالة الاجتماعية، ولكنى وعدت ويجب الوفاء بالوعد.. هكذا علمتنى أسرتى.
كان مكتب عبدالرحمن الشرقاوى فى الدور الخامس، ومكتبى فى السابع.. صعدت السلالم وذهنى مهموم بحكاية العدالة الاجتماعية التى وضعها أمامى عبدالرحمن الشرقاوى هدفا لابد من تحقيقه فى كل قرار أتخذه.
ولم أكن فى ذلك الزمان أدرك ما ينتظرنى، وليس عندى استيعاب للمسئولية الملقاة على كاهلى.. الرصيد الذى معى وأعرفه أننى زميل محب لجميع العاملين فى المؤسسة، وأعرف العمال قبل الصحفيين والإداريين.
ألم أقل لكم أن «روزاليوسف» أسرة قبل أن تكون مؤسسة، ولذلك كنا نسميها دار «روزاليوسف» مثل دار ابن لقمان فى المنصورة أو دار العمدة فى بلدنا، وجميع من فيها إخوة وأخوات أحباء.. يجمعهم التعاون وحب المجلة كتابها ورساموها والكاريكاتير الضاحك اللاسع.. وأسلوب الكتابة فى «روزاليوسف» يتميز بالرشاقة والبساطة والبعد عن الكلمات المقعرة أو المجعلصة.. إنها كتابة بسيطة سلسة تخرج من قلب كاتبها إلى قلب قارئها.
وكانت السيدة «روزاليوسف» أو فاطمة اليوسف تقوم بنفسها بعمل استطلاع للرأى بين القراء صباح يوم الاثنين ل «روزاليوسف» وصباح يوم الخميس لمجلة «صباح الخير».
تنتقل من مقهى إلى آخر لترصد المصريين وهم يشترون «روزاليوسف» أو «صباح الخير» وتظل تتابعهم لتعرف ماذا يهمهم؟!
الغلاف وهل أعجبهم بما يرتسم على وجوههم من قسمات تظهر الابتسامة أو التكشيرة، وأى المقالات يبدأون فى قراءتها، وأى الأبواب يفضلونها وهكذا.
كانت السيدة فاطمة اليوسف «معهد جالوب» متحرك فى مدينة القاهرة لرصد اهتمامات قراء «روزاليوسف» أو «صباح الخير» من خلال ما ينشر فيها.
والسيدة فاطمة اليوسف - إن كنت لا تعلم - تزوجت مرتين، الأولى من زكى طليمات الذى أنجبت منه ابنتها الكبرى ميمى وهى مازالت على قيد الحياة، وتزوجت مهندس التنظيم الذى عمل بالتمثيل الفنان محمد عبدالقدوس وأنجبت منه ابنها إحسان عام 1920، وهو الذى تولى قيادة «روزاليوسف» بعدها، لكن بعد أن أثبت أنه جدير بمنصب رئيس التحرير، وذلك من خلال نجاحه فى مؤسسة «دار الهلال» التى كان يكتب فيها باسم مستعار هو «سانو».
أخذنى الحديث وابتعدت بكم كثيرا عن المهمة الثقيلة التى فاجأنى بها الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوى وهو يسلمنى قرار مدير عام مؤسسة «روزاليوسف»
- اسمع يا لويس لابد من تطبيق العدالة الاجتماعية فى كل قرار تصدره ويكون خاصا بالعاملين فى «روزاليوسف».
طافت بذهنى كل هذه الذكريات حين طالعتنى الصحف وشاشات التليفزيون ومحطات الإذاعات العربية بأن هناك إعادة بين المهندس محمد مرسى ممثل الإخوان المسلمين وبين الفريق أحمد شفيق آخر رئيس وزراء فى آخر حكومة كونها الرئيس الذى تخلى عن منصبه محمد حسنى مبارك. قلت فى عقل بالى فينك يا أستاذ عبدالرحمن يا شرقاوى لتضع كلا من المهندس محمد مرسى والفريق أحمد شفيق أمام أهم بنود ثورة 52 يناير تحقيق العدالة الاجتماعية.
لذلك قررت أن أنوب عن أستاذى عبدالرحمن الشرقاوى الذى علمنى الكثير فى أن أطرح السؤال المهم على مرشحى الرئاسة محمد مرسى وأحمد شفيق.
قد يكون: عيش وحرية وكرامة إنسانية مطالب مهمة من مطالب ثوار 25 يناير، ولكنى أعتقد أن تحقيق العدالة الاجتماعية هو المطلب الرئيسى لثوار يناير 2011، وهو المطلب الرئيسى لكل أبناء مصر.
فالعدالة الاجتماعية مطلب أساسى للمصريين الذين يريدون بناء حياة جديدة لمصر المقبلة فى القرن الحادى والعشرين.
وبدون تحقيق العدالة الاجتماعية سيظل الفقير فقيرا ومريضا وجاهلا، ويظل الغنى مستمتعا بخيرات مصر على حساب أغلبية أبناء مصر.
ولكن تحقيق العدالة الاجتماعية بين المصريين سوف يجعل المصريين أجمعين يتقدمون إلى الأمام بهمة لتحقيق الإصلاح الذى نادى به الإمام محمد عبده، ولتحقيق حلم طه حسين أن يكون التعليم كالماء والهواء ملكا للجميع.