فى تلك الليلة المباركة سألنى المريدون أن أروى لهم نادرة من نوادر غزوة الخندق وطرفا من أطرافها.. فقلت لهم حبا وكرامة وجلست متربعا على متكئى وأسندت عصاى وقلت: كان بقايا القرشيين مازالوا أصحاب السلطة والنفوذ فى مكةالمكرمة، وقد علمتم أن النبى وأتباعه قد انحازوا إلى يثرب بعد أن ذاقوا من بطش كبار القرشيين وأتباعهم وأعوانهم الكثير.. وقد بدأت بشائر مجتمعهم الجديد فى التشكل فانتظم القوم فى أعمالهم وتشاركوا فى تجارتهم وشمروا عن سواعدهم فزرعوا وحرثوا آمنين مطمئنين، وبدأت القوة الجديدة فى النمو بشكل غير مسبوق مما أغلى صدور كبار قريش المتبقين بعد أن قتل الأغلب فى غزوة بدر، فكان أن بيتوا النية على أن يجتمعوا هم والبقية الباقية من قبائل قريش وكبار حلفائهم غربا وشرقا، وأن يقوموا بإعلان الحرب على أتباع الدين الجديد ذلك أنهم علموا أن فى قوته ضعفهم وأن فى بقائه ذهابهم، وأن لهذا الدين شروطا أقلها خطرا أن يقضى على سؤددهم وعزهم ومجدهم المورورث فلا عبيدا سيقودون ولا تجارة سيحتكرون ولا مجد إلا بالعمل ولا منصب إلا بالأمانة ولا علو إلا بالكفاءة فعلموا أنهم ولاشك ضائعون.. فأجمعوا كيدهم وأخذوا معهم حلفاءهم من غطفان وكنانة وزحفوا ليفاجئوا القوم من جهة جبل أحد المشرف على المدينة.. وكانوا قد اتفقوا سرا مع بعض أهل البلد أنهم إذا جاءوا أن ينتفض هؤلاء وهم بنى قريظة فيحاصرون القوم من أمامهم ومن خلفهم ومن فوقهم ومن تحتهم، فلا يجد القوم منهم مهربا ولا عنهم ملتجأ.. وهذا ماحدث.. وكان من بقايا قريش المعروفين رجل من جماعة اشتهرت بالشدة فى الحرب يسمون العبادلة وكبيرهم عمرو بن عبد ود العامرى، وكان من أمره أنه يفطر بحاشى وهو عند العرب الجمل الصغير فاشتهر بأنه آكل الجمل فإذا ذكر الجمل ذكر عمرو بن عبد ود العامرى.. وكان قد مول حملة بقايا القرشيين فى تلك الغزوة كبار تجارها فوضعوا رءوس أموال تجارتهم عند أقدام بقايا القرشيين لأنهم علموا أنها معركة الحياة أو الموت، فإن غلبت بقايا قريش فقد انتهى احتكارهم لتجارة مكة إلى الأبد فلا يحمدون عزا بعدها ولا يرتجون فتحا ولا سرورا ولا شرفا وراءها.. وهذا ماقد كان.. حفر المسلمون الخندق كما أشار سلمان الفارسى وقبع المقاتلون وراءه متحصنين فكان أن جاء القوم ليجدوا أمامهم ذلك المانع العسير وهم الذين سلاحهم السيف ومركبهم الخيل فلا سبيل إلى القوم.. هنا وقف كبيرهم وفارسهم عمرو بن عبد ود العامرى يصرخ من وراء الخندق وينادى أتباع محمد قائلا: يامحمد هل من أتباعك من يريد أن أحمله بسيفى هذا إلى جنتك الموعودة.. ويضحك ثم يضحك من ورائه القوم.. والمؤمنون صامتون خلف الخندق ومعهم النبى وبينهم كبار الصحابة فإذا قام أحدهم ليخرج للرجل أقعده النبى.. فلما رأى العبادلى أن القوم لايجيبون ولا يخرج منهم أحد لمنازلته.. علا صوته بعد أن اطمأنت نفسه قائلا: يامحمد أليس من أصحابك من يصدقك.. أين جنتك الموعودة لهم وظل يصرخ ويرغى ويزبد وبقايا القرشيين من ورائه يضحكون حتى قام الفتى الصغير ابن الستة عشر عاما فلم يطق بعد ذلك صبرا وكان إذا قام أشار له النبى بالجلوس حتى إذا قام الثالثة وافقه النبى على قراره.. ثم خلع عمامته الشريفة فوضعها على رأس على.. وعندما خرج الفتى ليعبر الممر الذى يربط بين الخندق وبين جيوش بقايا قريش.. قال النبى قولته الشهيرة «خرج الإيمان كله للكفر كله» مابقى تعلمونه من انتصار القوم وتحطيم بقايا قريش للأبد.. هذا ماكان وقد عبس الليل بوجهه فخلونى لخلوتى رحمكم الله.