«ما يقلقنى بخصوص الدين، أنه يعلَّم الناس أن يرضوا دون أن يفهموا».. عبارة للفيلسوف ريتشارد دوكنز.. قالها ومضى، ليرددها من بعده كثيرون ارتضوا أن تكون حياتهم بلا دين؛ فالأديان فى عقيدتهم هى أفيون للشعوب وهى مجرد حيلة قديمة مُبتكرة لقيادة البشرية كالقطيع.. ولأنهم لايرضون لأنفسهم سلوك القطيع، فقد رفضوا الأديان واتجهوا للعلم لايقبلون سواه موجهاً لعقولهم .. إنها العلمانية كما يعرفها البعض منا اليوم ونرفضها كمسلمين كمنتج غربى بحت لم يظهر إلا بعد صراع مرير مع الكنيسة التى جمدت تفكير الناس فى القرن السابع عشر، فأصبحوا يتقبلون كل شىء بلا إعمال الفكر، وكأن التفكير يتنافى مع الإيمان.. أما فى دين الإسلام، فالأمر يختلف كثيراً، ذلك أن الدين الإسلامى دين عقل وعلم ودعوة إلى القراءة (اقرأ)، وطلب العلم، والتفكر، والتعقل.. والقرآن نفسه كتاب تساؤل بل إثارة للشك «ربِّ أرنى كيف تحيى الموتى قال: أولم تؤمن؟؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبى» وكثيراً مايستحث العقل «أفلا تعقلون»!
والآن، رأينا من المسلمين من هم أشد خطراً على الإسلام من العلمانيين الذين ينكرون الدين تحيزاً للعلم.. لماذا ؟ لأنهم ينكرون العلم تحيزاً لفهمهم الخاطئ للدين ! يسعون للسلطة ومن أجلها يمارسون كل ما ينهى عنه الدين من كذب وغرور وصلف وضرب من تحت الحزام وفوقه و.. وهم بذلك - للأسف - يثبتون ويؤكدون مقولة ديكنز الماكرة.. فيصبحون هم والعلمانيون الذين يتهمونهم، وجهين لعملة واحدة ..
قد يقول قائل إن أول ما يبدأ به أى دين هو أن يطلب منّا تغييب العقل مدعياً وجود حدود لا يمكن بلوغها.. وقد يكون هذا صحيحاً باعتبار أن العقل البشرى أقل وأصغر من أن يدرك كل حيثيات الكون الكبير.
الخلط إذن ليس فى الدين أو التدين بل هو فى الفهم، نحن نريد دينا يحقق لنا السعادة النفسية، ولكننا لا نفهم أن الدين ما هو إلا تطبيق جاد ودقيق لتعاليم متصالحة مع الكون الذى نعيش فيه.
فجميع الأديان تحث على النبل والاستقامة والعدل والسلام، ولكن التطبيق أثبت أن البشر الذين هم الأسوأ تنظيما والأكثر تدميراً على وجه الأرض، هم الأكثر استغلالاً للدين من أجل التسلط والسيطرة والمصالح الدنيوية.. والدليل واضح أمام عيوننا فى فئة منا تغالى فى الطمع باسم الحرص على الدين وينساق وراءها المغيبون منا بحجة أنهم «بتوع ربنا».
الدين إذن.. لم يكن أبداً مشكلة فكرية وليس أفيونا للشعوب كما يدعون، أو كما يريدون له أن يكون.. إنما هو الدستور الإلهى المنظم لكل النشاط الإنسانى فى الكون.
نعود إلى مقولة دوكنز .. ونقول إن أساس الرضا هو الفهم، وأساس الفهم هو الرضا . لذلك لا يستقيم أن يكون أحدهم ضد الآخر، ولا ننسى أن نؤكد على أن الإسلام سعى ومازال إلى حمل الناس على الفهم والتفكير. وجعل من حقهم أن يرضوا أو يرفضوا .. «من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر».. فلا مبرر إذن لادعاء أن الإسلام يجعل المسلمين يرضون دون أن يفهموا سوى ما نشاهده من ممارسات لبعضهم ضد العقل، بل هى ضد الدين أيضاً لو يدركون.
وإذا سلمنا بوجود مشكلة فهى فيمن يدعى التدين خطأً.. وليس فى الدين ذاته لأن الدين ضمانة لحياة سعيدة فى الدار الدنيا ودار الآخرة .. وقد كرّم الإسلام العقل.. لدرجة تحريم كل ما يعيقه عن أداء مهمته وهى التفكير والتفكر، كالخمر، بل جعله شرطا لقبول الأعمال.. «لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى».
لكن - للأسف - يرى كثيرون أن مقولة ريتشارد دوكنز صحيحة تماماً إذا ما طبقت على المسلمين وإلا ما تفسير التأخر الذى نعيشه فى جميع مناحى الحياة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.. وما تفسير تقدم الدول والشعوب الملحدة: الصين، روسيا، الدول الاسكندنافية وقطاع كبير من الشعوب الأوروبية.
أرأيتم كيف تساوى المسلمون بالفهم القاصر للدين مع أكثر العلمانيين إلحاداً .. هم يرفضون الدين لأنه ضد العقل، ونحن نعطى عقولنا إجازة ونكتفى من الدين بإقامة الشعائر والمناسك.. هم كسبوا الدنيا وقد يخسرون الآخرة.. أما نحن فقد خسرنا الاثنين معاً.. رجاءً تفكروا يا أولى الألباب.