تشير نتائج التحقيقات الأولية التي أعلنتها أجهزة الأمن أن الجريمة الإرهابية التي ضربت الإسكندرية أمس نفذها انتحاري، يرجح أنه لقي مصرعه في الحادث، وقد استخدم عبوة شديدة الانفجار، مملوءة بالمسامير وكور حديدية استهدفت إيقاع أكبر قدر من الضحايا. ورجحت وزارة الداخلية أيضا تورط عناصر خارجية في هذه العملية الإرهابية وإن لم يبدو واضحا، حتي كتابة هذا المقال إن كان تحديد العناصر المنفذة راجحا إلي معلومات أمنية أو تحليل أمني دقيق، لطريقة التفجير وطبيعته. وفي مثل هذه الحوادث الإرهابية الضخمة من حيث قوة التفجير وزيادة عدد الضحايا، ونوعية العملية وطبيعتها ينبغي عدم استباق نتائج التحقيقات، والوصول إلي استنتاجات من شأنها إثارة حالة من البلبة بين الناس، في نفس الوقت الذي يجب فيه التعامل الإعلامي مع التحقيقات بمسئولية كبيرة حتي لا يؤثر ما ينشر علي التحقيقات الأمنية الجارية. ويجب أيضا التعامل مع الحادث وفقا لما جاء في كلمة الرئيس مبارك للأمة أمس "حادث إرهابي تعرضت له مصر كلها، وامتزجت فيه دماء شهداء الوطن الأبرياء من مسلمين ومسيحيين.. في عملية إرهابية غريبة علي مصر وغريبة علي شعبها.. وتكشف عن تورط عناصر خارجية فيها"(....). ومع ذلك فإنه علينا التوقف وتأمل دلالات المكان والزمان في هذا الحادث الإرهابي البشع، فاختيار الإسكندرية مكانا لهذا الحادث بالذات هو رسالة إلي مدينة مثلت طوال تاريخها منذ أن بناها الإسكندر الأكبر نموذجا للتعايش بين الحضارات والثقافات والأديان والأجناس. ورغم أن الإسكندرية شهدت خلال السنوات الخمس الماضية رياح تطرف، ذكتها سيطرة جماعة دينية غير شرعية علي المقاعد النيابية للمحافظة، وتنامي تيار سلفي مناهض للدولة المدنية.. مما أدي إلي احتقان غير مسبوق في هذه المدينة، فإن عقلاء الأمة ظلوا طوال الوقت يقاومون رياح التطرف والتشدد التي هاجمت الإسكندرية في محاولة لاغتيال تاريخها ورمزيتها الوطنية كمدينة وعاصمة عالمية للتعايش. ومن هنا: فإن من اختار الإسكندرية لتنفيذ هذه الجريمة الإرهابية استهدف توجيه رسالة شديدة اللهجة للمصريين جميعا، مفادها أن يد الإرهاب لا تضرب فقط في المناطق التقليدية للتوتر داخل الوطن، أوالتي شهدت تاريخا قديما من العمليات الإرهابية، مثل الصعيد، وإنما تطال أحد أكثر المدن المصرية انفتاحا وتعايشا، مما ينعكس بالسلب علي العلاقة بين أبناء الوطن الواحد، وفي محاولة لإثارة موجة من الاحتقان والتضاغط بين المواطنين. الملاحظة الثانية المهمة أن اختيار التوقيت بعد دقائق قليلة من بدء العام الجديد، هو رسالة تشبه كثيرا العمليات الإرهابية التي ضربت سيناء خلال عامي 2004 و2005 ووقعت معظمها في مناسبات قومية أو أعياد دينية، مما يحمل رسالة أخري تستهدف قتل فرحة المصريين جميعا في مختلف المناسبات. المكان والزمان في مثل هذه العمليات الإرهابية ليس محض صدفة، وإنما يجري اختياره بعناية، ومغزي المكان والزمان في هذا الهجوم الإرهابي البشع أن هناك من يسعي لاغتيال ذاكرة وتاريخ شعب، وحرمانه من اللحظات القليلة التي يتغلب فيها علي صعوبات الحياة ليحتفل بمناسبة ما قد تكون بداية سنة جديدة، أو ذكري نصر أكتوبر أو احتفال بالثورة المصرية.. صحيح أن العملية الإرهابية وقعت أمام كنيسة وقد تكون في إطار تهديد سابق من القاعدة باستهداف الأقباط، لكن النتيجة النهائية أن مصر كلها أصيبت إصابة بالغة، وهو ما يستدعي أن نقف جميعا صفا واحدا لمواجهة هذه المحنة والمصيبة الكبري.