نجح رئيس الحكومة التايلاندية الشاب أبهيسيت فيجافيفا (46 عاما) في إخماد الاضطرابات السياسية الدامية التي اجتاحت بلاده في العام الماضي بأقل قدر من الخسائر، الأمر الذي بزغ معه نجمعه علي الساحة السياسية الداخلية كزعيم سياسي قوي وحكيم.. ثم عزز الرجل، المتخرج في كلية إيتون وجامعة أكسفورد البريطانيتين العريقتين، نفوذه ومكانته خلال الاسابيع القليلة الماضية، حينما تمكن «الحزب الديمقراطي» الذي يقوده من النجاة من حكمين قضائيين مرفوعين ضده بتهمة تزوير انتخابين برلمانيين سابقين، وبالتالي الحيلولة دون حل الحزب المذكور، وحرمان قائده من الاشتغال في السياسة لمدة خمس سنوات متواصلة. هذه التطورات في بلد واعد في منطقة جنوب شرق آسيا، ودولة لطالما نظر إليها المراقبون كواحة للأمن والنظام والازدهار كتايلاند، دفع الكثيرون إلي ترقب ما سوف يكون عليه رد «فيجافيفا»، وعما إذا كان الرجل سيستغل الوضع لاتباع نهج جديد مع خصومه ومعارضيه من المعروفين بذوي القمصان الحمراء ممن يديرهم من الخارج رئيس الحكومة الأسبق ورجل الأعمال المثير للجدل «تاكسين شيناواترا». ولم يطل الانتظار كثيراً، إذ سرعان ما أعلن «فيجافيفا» قبل أسبوع عن نيته في رفع حالة الطوارئ التي فرضت علي العاصمة بانكوك والمناطق المجاورة لها منذ السابع من أبريل 2010 في محاولة وقتئذ لكبح جماح التظاهرات وأعمال الشغب التي قادها ما سمي ب«الجبهة المتحدة من أجل الديمقراطية» ضد ما قيل إنه ديكتاتورية يسعي إليها «فيجافيفا» بالتعاون مع البلاط الملكي ممثلا في رئيسه الجنرال المتقاعد ورئيس الوزراء الأسبق «بريم تنسولانوند.. تلك المظاهرات والاضطرابات التي عدت واحدة من أسوأ الفترات في تاريخ تايلاند المعاصر بسبب ما نجم عنها من مقتل 90 شخصا وإصابة أكثر من 1400 شخص خلال شهري أبريل ومايو 2010 . علاوة علي ما سبق، أعلن «فيجافيفا» أنه مازال ملتزما بالوعد الذي قطعه علي نفسه حول إجراء انتخابات عامة مبكرة في عام 2011 «أي قبل حلول موعدها الطبيعي في أوائل 2012» من أجل تعبيد الطريق نحو مصالحة وطنية شاملة.. وإذا كانت المصالحة الوطنية هدفا لرئيس الحكومة التايلاندية من تنفيذ وعده المذكور طبقا لبعض المراقبين، فإن مراقبين آخرين يرون أن الهدف الحقيقي هو إثبات أن «الحزب الديمقراطي» غير متواطئ مع مؤسستي الجيش والبلاط، أو أنه ليس ألعوبة في يدهما، دحضا لما تم تداوله من أن المؤسستين المذكورتين كانتا وراء الإتيان بالحزب إلي السلطة علي رأس حكومة ائتلافية في عام 2008 . وإذا صحت النظرية الثانية، فإن هناك مخاوف تتردد في الأوساط السياسية من احتمالات أن تقوم قوي سياسية محافظة بالتعاون مع الجيش بتخريب عملية المصالحة المأمولة، أو إسقاط الائتلاف الحاكم، وبالتالي ادخال البلاد في حالة جديدة من العنف واللاستقرار.. فهذه القوي لا يسعدها مخططات «فيجافيفا» الداعية إلي عدم خلط القضايا الجنائية بالعملية الديمقراطية، وإلي ترسيخ مبدأ خضوع المؤسسة العسكرية وجنرالاتها لأوامر رئيس السلطة التنفيذية المدني، علي نحو ما هو معمول به في الهند وفي الانظمة الديمقراطية الغربية.. هذا ناهيك عن إيجاد حل سلمي سريع ودائم لقضية الاقاليم الجنوبية الساعية إلي الانفصال، والعمل الدءوب من أجل حل المشاكل الاقتصادية التي تواجهها تايلاند، والناجمة عن تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية من جهة، وبروز الصين كمنافس تجاري قوي من جهة أخري. ومن أجل تحقيق خططه، يراهن «فيجافيفا» كثيرا علي شعبه الذي كما قال في مقابلة صحفية أخيرة اكتوي بنيران أعمال الشغب وتخريب الممتلكات العامة وتعطيل المصالح العامة والخاصة علي مدي عدة أشهر، فصار مقتنعا الآن بقوة بفكرة أن الاستقرار السياسي والأمني هما حجر الزاوية في رفع مستويات معيشته وتحسين ظروفه الاقتصادية، وبما جعله أقل تجاوبا من التحريض الذي يمارسه «شيناواترا» وأنصاره من الداخل والخارج، والذي قيل في أكثر من مناسبة إنه لا يستهدف الحكومة، بل النظام الملكي بأسره.. هذا النظام الذي أثبت، منذ أن اعتلي العاهل الحالي الملك «بهوميبون أدونياديت» عرش البلاد في عام 1946 أنه صمام الأمان في مواجهة الأزمات ومحاولات تفتيت الوحدة الوطنية. ولعل وجود دلائل اليوم علي عدم تجاوب الغالبية العظمي من التايلانديين مع خطاب «شيناواترا» التحريضي وطموحاته في الانقضاض علي الملكية هو الذي شجع «فيجافيفا» علي الاعلان عن نيته في رفع حالة الطوارئ عن العاصمة وضواحيها قريبا.. بل إن الرجل قال صراحة في المقابلة الصحفية المذكورة إن تراجع الاضرابات والمظاهرات وأعمال العنف طيلة الاشهر الستة الماضية، بسبب يأس «شيناواترا» وأنصاره من جهة، ووجود نحو 200 عنصر من الخطرين منهم في قبضة الأمن، دفعه إلي التفكير جديا برفع حالة الطوارئ عن العاصمة، خصوصا من لجوء اتباع «شيناواترا» مؤخرا إلي خلط الأوراق عن طريق الانصراف إلي القيام بأعمال تفجير في الأقاليم ذات الأغلبية المسلمة في جنوب البلاد، وذلك في محاولة يائسة منهم لتصوير الحكومة بأنها ضعيفة وغير قادرة علي ضمان سلامة البلاد وشعبها. وفي سياق الحديث عن التقارير الي قالت إن قبضة مؤسسة الجيش قد تعززت كثيراً خلال الأشهر السبعة الماضية بسبب إدارة جنرالاتها لحالة الطوارئ المفروضة علي العاصمة وضواحيها، ناهيك عن تطبيقهم للقوانين العرفية المفروضة منذ وقت أطول علي الاقاليم الجنوبية المسلمة، دحض الزعيم التايلاندي تلك التقارير قائلا: إن مؤسسة الجيش تتعاون كليا مع السطة التنفيذية في بسط الأمن في جميع أرجاء البلاد طبقا للقانون، وأن رجالاتها ملتزمون بعدم تجاوز القانون في تعاملهم مع المقبوض عليهم بمن فيهم أولئك المتهمون بازدراء الملكية، ومضيفا بأن القوانين العرفية قد رفعت عن أربعة أقاليم جنوبية، وأن قرارات أخري سوف تصدر قريبا لرفعها عن بقية الأقاليم الجنوبية المضطربة بناء علي توصيات من قائد الجيش الجنرال «برايوت تشان أوتشا». وأخيرا فلا بد من التأكيد أنه رغم كل محاولات التشكيك في عمل الائتلاف الحكومي الذي يقوده «فيجافيفا» فإن حكومة الأخير، بالمقارنة مع كل الحكومات التايلاندية السابقة، تعتبر الأقل فسادا، والأكثر اجتهادا ومثابرة لجهة الالتزام بالدستور والقانون والسعي لتأمين السلام والاستقرار.. أما ماقيل عن لجوء الحكومة إلي تقييد بعض الحريات الإعلامية، فإن «فيجافيفا» يعتبره أمرا مبالغا فيه، لأن حكومته حسب ما قال لم تتدخل إلا فيما خص التعرض للملكية التي تعتبر في تايلاند «قدس الأقداس». باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين [email protected]