«هاتولي ابني»، قالتها ميرال الطحاوي وهي تتلفت يمينا ويسارا، بينما أشخاص غرباء، عاديون، مجرد معارف يتسابقون لالتقاط الصور معها، ربما أرادت ميرال أن تسجل لحظة إعلان فوزها بجائزة نجيب محفوظ لحظة فرحها، مع ابنها «أحمد»، مثلما سجلت معه داخل، وعلي غلاف روايتها الفائزة «بروكلين هايتس» لحظات من الوحدة والغربة والحنين إلي الوطن. ومثلما أمسك ابنها بيدها علي غلاف روايتها، أمسك أيضا بيدها، بل اقتحمها، لحظة أن كانت تجري حوارا تليفزيونيا، وكأنه يرفض أن تخرج صورة لها يكون هو خارج إطارها. بدت الروائية الجميلة، كما عرفها الوسط الثقافي، خجولة بعض الشيء، قالت بينما تنتظر بدء فعاليات الاحتفال: كفاية تصوير مش ها أعرف أتكلم، حتي وهي تلقي بكلمتها، بدت خجولة، لكن، وعلي العكس، حملت ورقتها كلمات امرأة متمردة رافضة لسلطة ذكورية فرضتها الظروف الاجتماعية عليها «خرجت من بيت أبي، أهدتني الكتابة نعمة التطلع والحلم والبحث عن أفق أرحب للتحقق». ومن هنا آمنت صاحبة «الخباء» و«الباذنجاة الزرقاء» و«نقرات الظباء» أن: «الحكي أنثي والكتابة رحم»، ومثلما اتخذت من الكتابة وسيلة للانتقاد والتمرد علي وضع اجتماعي قاهر للمرأة، اغتال طفولتها، وسحق أنوثتها، ودفعها لرفقة زوج خائن، وأخيرا دفعها للهجرة وهي بعد مازالت علي علاقتها الحميمة بوطنها، جاءت كلمتها محملة بنفس القدر من التمرد والانتقاد، تمردت علي أخ كان يجيب بلسانها، ونيابة عنها، بينما هي حاضرة بكامل ذاتها، تحكي: «كان المترجم مشغولا ببعض الكلمات البدوية والأغاني وأسماء الأشياء التي تحتاج تفسيرا في روايتي الأولي الخباء، جلس أخي الأصغر أمامه مستعدا للإجابة نيابة عني، شارحا ومتداركا كل ما يتعلق بروايتي التي لم يقرأها، لكنني علي أية حال ربما لا أفهم عن حياة البدو أكثر منه، حتي لو كتبت رواية عنهم ربما لأنني فقط بنت، ورغم كل محاولاتي التدخل وفرض بعض السلطة علي حركة الترجمة التي تتم قسريا رغما عني، فقد باءت كل محاولاتي بالفشل». في الروايات انتصرت ميرال للمرأة، وفي الكلمة أعلنت: «من حكايا النساء نسجت خباء وسكنت فيه وحدي، أنا ابنة الأغاني والمواجد والحكايات والتلصص علي عالم الرجال، آمنت أن الكتابة الحقيقية هي القدرة علي بناء عوالم تخصني وحدي وتختصر وجودي». وفي حواري السابق معها أوضحت: هناك نوستالجيا عميقة أشعر بها لكل ما فقدته، حنين كالذي تتغني به فيروز «أنا عندي حنين ما بعرف لمين»، تلك حالة إنسانية تنتابنا جميعا رجالا ونساء، علي جسور الاغتراب في المجمل، لكنها حالة إنسانية أيضا، وتردف: كل نص كتبته هو في الحقيقة جزء من مشاعري وتاريخي وسيرتي، أكره فقط التلصص علي حياتي من خلال النص، أعرف صديقة لي حرضتني علي عدم نشر النص باعتباره مثيرًا للشفقة والأقاويل، ما يضايقني هو تصفية الحسابات في الكتابة، نحن لا نكتب كي نصفي حساباتنا مع الآخرين سواء من نحب أم من نكره نحن نتطهر بالكتابة، صحيح أنني كتبت عن أم مع طفلها في أمريكا وتلك هي الحقيقة التي عشتها، أم وحيدة شبه محطمة وتعسة وتواجه بقايا أحلامها في الحياة، لكن ذلك خبرة أيضا لم تعشها ميرال الطحاوي فقط، تعيشها ملايين النساء في العالم وملايين الرجال أيضا، لا أجد خجلا في الاعتراف بأن لي وجوها كثيرة مثل كل إنسان، فأنا مثل ممثلة محترفة تجد حياتها ومتعتها الأقنعة المتعددة للوجوه. ومن الأب الذي افتقدته بطلات روايات ميرال وتمردت عليه حبا فيه، ذاك الأب الذي يتمسك بتقاليد ومكانة بدوية عفي عليها الزمن، لم تنس ميرال أن تعرج علي «نجيب محفوظ الأب»، هكذا وصفته، وقالت: تحت مظلة محفوظ ولدت ككاتبة، ونشرت أعمالي المترجمة، كان نجيب محفوظ بالنسبة لي وسيظل المثال والنموذج الأكثر إخلاصا للكتابة.. نجيب محفوظ الأب الذي يجسد الدأب والتواضع والاحتواء.. نتمرد علي كتابته لكننا كل مرة نعود بقوة أكبر إلي الإعجاب به.. الأبوة الحقيقية تترك علاماتها وتعقيداتها من المحبة إلي الاحتجاج.. لم أقابل محفوظ، لكنني مثل كل كتاب جيلي كنا نعرفه وننتمي له، مثل كل الأبناء نتذكره حين نبحث عن هوية وشكل لتجاربنا المتعددة في الكتابة». ومثلما تحدثت ميرال عن نجيب محفوظ، تحدث عنه أيضا الناقد الدكتور جابر عصفور، في تقرير للجائزة أسماه «زمن الرواية ودلالاته»، لا يبتعد كثيرا عما أطلقه منذ أعوام والخاص بسيطرة الرواية علي المشهد الأدبي، في التقرير استرجع عصفور بداية عصر الرواية وقت أن قاده نجيب محفوظ ابتداء من عام 1944، وحكي لنا كيف أن أديب نوبل، الذي كان لا يزال في بداية طريقه، قد تصدي لاستخفاف عباس العقاد بها، حينما وصفها بقنطار الخشب ودرهم الحلاوة، بينما يصفها محفوظ ب«شعر الدنيا الحديثة»، وانتقل بنا عصفور إلي سنوات الستينيات، تلك السنوات المتأزمة التي فرضت تغيرا هائلا علي أبناء تلك الحقبة من الكتّاب، وهو التغير الذي أصبح فيما بعد مشروع جيل الستينيات الأدبي، وهنا تغير كتابة نجيب محفوظ نفسها لتواكب ظروف تلك الحقبة، وفي فترة التسعينيات بدأت تتشكل ملامح أدب الجيل «الستيني»، احتفظ جيل النكسة بحلم الدولة القومية، ظل مبقيا عليه وساعيا إلي تطوير نفسه محاولا موازاة ذلك الإبداع الجديد الذي يتخلق علي يد جيل «تسعيني» لم يشهد من النكسة شيئا. جيل وصف عصفور كتاباته بأنها تقوم علي عدم اليقين، أو الإيمان، كتابة تنطلق من الواقع الكئيب، تهتم بالهامش وتبحث عنه وتعيش فيه، كتابة ابتعدت عن السرديات الكبري، ويعلنها عصفور: جيل الستينيات سيمتد إلي الأمام في خط مواز لخط جيل التسعينيات وإن اختلف معه. لكن هل سيحدث جيل التسعينيات إنجازا مثل ذلك الذي حققه جيل الستينيات؟، هكذا يتساءل عصفور، وهكذا يجيب: «علم هذا في المستقبل، لكن جيل التسعينيات هو جيل المفارقات المدهشة، ربما لأنه عاصر ما نسميه العصر الاستهلاكي الذي تسببت فيه العولمة، لكن هل ظاهرة الأكثر مبيعا وتلك الكتابات الرائجة ستكون عنصرا مكملا لعناصر الكتابة الروائية عند جيل التسعينيات في المستقبل.. لا يمكن لأن هذا الجيل لديه رغبة في تطوير أفقه الروائي وستنتهي هذه الظاهرة في المستقبل».