لماذا عجزوا؟ وما وجوه الإعجاز؟ اتفقت كلمة العلماء علي أن القرآن لم يعجز الناس عن أن يأتوا بمثله من ناحية واحدة معينة وإنما أعجزهم من نواح متعددة، لفظية ومعنوية وروحية، تساندت وتجمعت فأعجزت الناس أن يعارضوه، واتفقت كلمتهم أيضاً علي أن العقول لم تصل حتي الآن إلي إدراك نواحي الإعجاز كلها وحصرها في وجوه معدودات. وأنه كلما زاد التدبر في آيات القرآن، وكشف البحث العلمي عن أسرار الكون وسننه، وأظهر كر السنين عجائب الكائنات الحية وغير الحية تجلّت نواح من نواحي إعجازه، وقام البرهان علي أنه من عند الله. وهذا ذكر بعض ما وصلت إليه العقول من نواحي الإعجاز: أولها: اتساق عباراته ومعانيه وأحكامه ونظرياته: تكوّن القرآن من ستة آلاف آية، وعبر عما قصد إلي التعبير عنه بعبارات متنوعة وأساليب شتي، وطرق موضوعات متعددة اعتقادية وخلقية وتشريعية، وقرر نظريات كثيرة، كونية واجتماعية ووجدانية، ولا تجد في عباراته اختلافاً بين بعضها وبعض، فليس أسلوب هذه الآية بليغاً وأسلوب الأخري غير بليغ، وليس هذا اللفظ فصيحاً، وذاك اللفظ غير فصيح، ولا تجد عبارة أرقي مستوي في بلاغتها من عبارة، بل كل عبارة مطابقة لمقتضي الحال الذي وردت من أجله، وكل لفظ في موضعه الذي ينبغي أن يكون فيه. كما لا تجد معني من معانيه يعارض معني، أو حكماً يناقض حكماً ، أو مبدأ يهدم مبدأ، أو غرضاً لا يتفق وآخر، فكما أنه لا اختلاف بين عباراته وألفاظه، لا اختلاف بين معانيه وأحكامه، ولا بين مبادئه ونظرياته، ولو كان صادراً من عند غير الله أفراداً أو جماعات ما سلم من اختلاف بعض عباراته وبعض، أو اختلاف بعض معانيه وبعض، لأن العقل الإنساني مهما نضج وكمل لا يمكنه أن يكون ستة آلاف آية في ثلاث وعشرين سنة لا تختلف آية منها عن أخري في مستوي بلاغتها، ولا تعارض آية منها آية أخري فيما اشتملت عليه. وإلي هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه وتعالي بقوله في سورة النساء: {أَفَلاَ يتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} (النساء:82). وما يوجد من اختلاف في الأسلوب بين بعض الآيات وبعض، أو اختلاف أسلوب الآيات في مستوي البلاغة فليس منشؤه اختلاف أسلوب الآيات في مستوي البلاغة وإنما منشؤه اختلاف موضوع الآيات، فإذا كان الموضوع تقنينا وتبيينا لعدّة المطلّقة أو نصيب الوارث من الإرث، أو مَصْرف الصدقات، أو غيرها من الأحكام فهذا لا مجال فيه للأسلوب الخطابي المؤثر، والذي يطابقه هو الألفاظ الدقيقة المحدودة، وإذا كان فيه مجال للأسلوب الخطابي المؤثر، والذي يطابقه هو الألفاظ الدقيقة المحدودة، وإذا كان الموضوع تسفيها لعبادة الأوثان أو بيانا لفيضان الطوفان أو استدلالا علي قدرة الله، أو تذكيراً بنعمه علي عباده، أو تخويفا بشدائد اليوم الآخر، فهذه فيها مجال للأسلوب الخطابي ليس من البلاغة، لأن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضي الحال ولكل مقام مقال. وما يوجد من تعارض ظاهري بين ما دلت عليه بعض الآيات وما دلت عليه أخري فقد بين المفسرون أنه ليس تعارضا إلا فيما يظهر لغير المتأمل، وعند التأمل يتبين أنه لا تعارض، ومن أمثلة هذا قوله تعالي: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } (النساء: 79) مع قوله سبحانه: {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ} (النساء: 78) وقوله تعالي: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}(الإسراء: 16) مع الآيات الدالة علي أن الله لا يأمر بالسوء والفحشاء، فكل ما ظاهره التعارض من آيات القرآن فهو بعد البحث متفق متسق لا اختلاف فيه ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.