إنهم ملايين، نساء ورجال، شباب وكهول، فقراء وأثرياء، تحركوا جميعهم من بلادهم صوب بيت الله الحرام يبتغون أداء فريضة الحج، أنا واحدة من هؤلاء الملايين، تركت بيتي وبناتي وأسرتي وعملي وهموم الدنيا وخرجت مع الملايين غيري وجلة مرتبكة أطمح من أعماق قلبي أفلح أن في أداء ما يتعين علي أداؤه من مناسك وشعائر بعدما ما تمنيت الحج منذ سنوات لكني سعيت له بحق هذا العام فتكلل سعيي بالنجاح و.. لبيك اللهم لبيك، لبيك لاشريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لاشريك لك لبيك. ودعت بناتي وحياتي وغادرت منزلي راضية سعيدة، وصلت هنا في مكةالمكرمة منذ ثلاثة أيام مرت علي و كأنهم دهر، كل ما أراه حولي لا أعرفه ولم أتصوره رغم كل التصورات التي بذلت في تخيلها جهدا، فمكة التي زرتها في وقت سابق معتمرة تختلف عن مكة التي أراها الآن، شوارعها وساحات الحرم مكدسة ببشر، ألوف، ملايين، يتدافعون بمودة وتقوي مبتغين رضاء الله ورضوانه.. هنا رأيت ملايين البشر يجمعهم حب الله سبحانه وتعالي والامل في مغفرته وعفوه يتمنوا يقبل الله حجهم فيعودوا لحياتهم السابقة كما ولدتهم امهاتهم صفحات بيضاء ولكن.. هل فعلا سيعودون لحياتهم السابقة كما غادروها؟ وصلت لمكة محملة بأمانة الدعاء من كثيرين من أصدقائي واحبائي ومعارفي، كلهم يتمنون دعوة لهم بالرضا والستر والرحمة والمغفرة والتوبة، يتمنون لسانًا وقلبًا ينطقان بها في بيت الله الحرام، طامعين في رحمة ربهم وكرمه فيستجيب للدعاء ويمنحهم ما يطمحون فيه ويتمنونه، وصلت بعد ساعات طويلة من الإجراءات المتلاحقة التي لم يقصد منها إلا تيسير وتسهيل إقامة وتنقلات الملايين من ضيوف الرحمن الوافدين من كل بقاع الأرض وحين خرجت من غرفتي تقودني قدماي المتعبتان صوب الحرم المكي، خطوة خطوة يقل التعب الجسدي ويرتعش قلبي واسير واحدة من جموع تزحف بفطرة القلب وشوق الروح لرؤية الكعبة التي تنفجر الدموع من القلب حبا ووجلا لرؤيتها، انا في بيت الله جل جلاله وعظم شأنه، أبكي فرحا وشوقا وخوفا، تتلاشي الاسماء والادعية من عقلي الذي لايستوعب وقوفي امام الكعبة المشرفة، اخيرا أنا هنا، ويرتاح الفؤاد وتنسي النفس المتعبة بالهم كل همومها وتجتاحني السعادة ودموعها الفياضة وسرعان ما أفيق علي الحقيقة الجميلة التي أعيش كل ثوانيها بفرحة غامرة، أنا في ضيافة الرحمن وفي بيته بعدما أذن لي بالزيارة، الكعبة الشريفة امام عيني، تخطف اللب والوجدان والروح المشتاقة، أرفع بصري للسماء وتنهمر الأدعية من لساني وقلبي كالمطر فيضانات هادرة لنفسي وبناتي وأحبائي وأصدقائي وكل من أوصاني ولبلدي وشعبه الطيب . واللهم آتنا في الدنيا حسنة والآخرة حسنة وقنا عذاب النار والصحة والستر والرضا والمغفرة، دنيا وآخرة يارب العالمين يا أكرم الأكرمين. بعد ساعة من وصولي الفندق وبكل التعب الجسدي والإرهاق، خرجت بإصرار وشوق للكعبة واعتمرت لأمي رحمة الله عليها، السيدة الطيبة التي ماتت راضية بعد مرض طويل عضال وهي تدعو لي وقلبها راضٍ عني فعشت بعد موتها سنوات اترحم عليها واطلب لها من الكريم قصرا في الجنة واجني في حياتي كل يوم ثمار رضائها عني و "أرحم أمي يا أكرم الأكرمين" وخرجت من الحرم بعدما صليت وطفت وسعيت وبكيت وشربت من زمزم ودعيت وطمعت في رحمة ربي ومغفرته وكرمه وفككت إحرامي وعدت للفندق بعدما انتصف الليل أحلق في السماء اتبختر بخطوات سعيدة راضية لا أصدق ما أشعر به وأحسه ويملأ روحي ونفسي ووجداني وغبطة قلبي وسكينة نفسي وروحي. ومازلت في مكة أنتظر ليلة الوقفة لنبدأ شعائر الحج أدعو ربي كل لحظة يقويني ويساندني ويمكنني من حسن ادائها ويتقبلها مني وطمعانة في كرمك يا أكرم الأكرمين! وحين تقرأون تلك السطور صباح الاثنين، أتمني أن أكون وسط الملايين المحتشدين الواقفين علي جبل عرفات، أدعو ربي لي ولكل أحبائي ولكل من أوصاني بكل ما سيخرج من قلبي للسماء، وحين تسمعون أصوات الملايين تلبي ربها باصوات رجفة فرحة وحين تلمحون ابتسامات الرضا والسعادة علي وجوه الحجاج وهم في ضيافة ربهم فوق جبل عرفات وحين تلمحون دموع التمني والرجاء والتقوي والخشوع تنهمر علي الوجوه، أتمني أن أكون وسطهم ومعهم بصوتي وقلبي وابتسامتي ودموعي ورجائي. وربنا يوعدكم! ومازلت في مكة انتظر انا والملايين المؤمنون المحبين لله سبحانه وتعالي وللرسول المصطفي عليه أفضل الصلاة والسلام، ننتظر يوم عرفة ورمي الجمرات وطواف الإفاضة والانتهاء من كل مناسك الحج ندعو ربنا من أعماق قلوبنا أن يقدرنا ويقوينا ويمكننا ويتقبل منا ويغفر لنا ويرحمنا. واللهم اوعد كل مشتاق بزيارة بيتك وفض علينا من رحمتك وكرمك... ولبيك اللهم لبيك، لبيك لاشريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لاشريك لك لبيك. وكل سنة وأنتم طيبين وكل المصريين بخير.