يعتقد البعض أن الذين يكتبون عن الأفلام يتصيدون الأخطاء «للمبدعين» ويبحثون عن القبح ليقدموا بإبرازة في الأعمال «الفنية»، لن أرد بالنيابة علي أحد، ولكنني سأتحدث عن نفسي فقط لأقول أن القبح لا يحتاج أصلاً إلي بحث وتنقيب لأنه يقتحمنا دون استئذان في كل مكان، ولو كانت مهمتي هي البحث عن القبح لما كتبت حرفًا واحدًا من السينما، ولو كنت مجرد «حانوتي أفلام» يحاول أن يدفن كل عمل فني لما رضيت لنفسي أبدًا بهذا الدور، علي العكس تمامًا من ذلك، أري بوضوح أن مهمة الكاتب عن الأفلام البحث والتنقيب عن الأفلام الجيدة والمواهب التي تستحق الاشادة، هؤلاء نادرون كالكنوز الأثرية ولذلك لابد أن نبذل الجهد للبحث عنهم، وفي سبيلنا للعثور علي هذه الكنوز نقوم بما يقوم به المكتشف الذي يزيح التراب والغبار، ويهبط إلي باطن الأرض، وقد يشتبك مع الخفافيش والهوام، أي أن محاربة القبح يصب في النهاية في جانب المهمة الأساسية وهي الوصول إلي الجمال، وفي سبيل مشاهدة فيلم واحد جميل، أجدني مستعدًا لمشاهدة الكثير من الأفلام المتواضعة، وفي سبيل لحظات حماس لعمل ملهم، أجدني صابرًا محتسبًا وأنا أشاهد أفلامًا ترفع الضغط، وتسد النفس. تبدو المقدمة السابقة ضرورية لتفسير فرحتي ونشوتي بمشاهدة أحد تلك الكنوز الصغيرة المخبوءة، وأعني به الفيلم الأمريكي الجميل «letters to gulietr» أو كما عرض تجاريا تحت اسم «رسائل إلي جولييت»، من ناحية الشكل والنجوم أنت أمام فيلم بعيد عن الضخامة الهوليوودية المألوفة، أما من حيث القيمة والمعني والتأثير فأنت أمام أحد أجمل وأعذب وأزكي الأفلام الأفريقية التي شاهدتها عام 2010، عمل يتسلل إليك في هدوء فيحقن في شرايينك بهجة وفرحة بالحياة وبالحب وبقدرة الإنسان علي أن يغير حياته بالعواطف الصادقة، فيلم ينتمي إلي زمن السينما الأنيقة الجميلة قبل أن يتفرغ بعض صناعها إلي تصوير تقطيع الجثث وامتصاص الدماء وتجسيد كل القبائح البشرية، فيلم لا يقدم ببراعة قصتي حب رائعتين، ولكنه يتغزل في عاطفة الحب نفسها لأنها عابرة للزمان وللمكان وللجنسية وللفوارق، هناك دائمًا فرصة ثانية لكي تتحقق من خلال عاطفة صادقة، وهناك دائما حوارات ذكية، وكوميديا رائعة، وسيناريو متماسك، وشخصيات حية رسمت معالمها بكل براعة واقتدار. يتوقف الكاتب عن الأفلام عن سؤالين لا ثالث لهما: ماذا يقول الفيلم؟ وهذا ما أوجزته سابقا، والسؤال الثاني هو: كيف يقول؟ وهذا ما سأحكيه لك تفصيلاً، القصة شديدة البساطة، ويمكن تلخيصها علي هذا النحو الموجز: تذهب الفتاة الأمريكية «صوفي» «آماندا سايفيرد» إلي «فيرونا» مع خطيبها الطاهي «فيكتور» «جايل جارسيا برنال».. وهناك تزور منزل «جولييت كابوليت» التي ألهمت شيكسبير وشعراء غيرت كتابة مأساتها الشهيرة مع حبيبها «روميو»، ولأنها أصلاً صحفية تساهم مع آخريات في بلدته «فيرونا» للرد علي الرسائل التي توجهها المئات يوميا إلي «جولييت»، وتكتشف رسالة عمرها نصف قرن أرسلتها فتاة إنجليزية عام 1957 إلي «جولييت» طالبة الرأي فيما فعلته من تركها لحبيبها الإيطالي «لورنزو» وترد «صوفي» علي الرسالة بأنه طالما وجد الحب الحقيقي فإن الفرصة لم تضع بعد، كما أن الوقت لم يفت علي الاطلاق، وهكذا تحضر العجوز «كلير» - الفتاة الإنجليزية سابقًا للبحث عن حبيبها العجوز برفقة حفيدها الشاب «شارلي» «كريس إيجان»، وتخوض «صوفي» تجربتين في منتهي الثراء؟ الأول الحصول للعجوز علي حبيبها القديم، والثانية علاقة حب مع «شارلي» تطيح بخطيبها القديم الذي لا يعرف في حياته سوي الاهتمام بأنواع الطعام والأكل. هذا هو الإطار العام للحدوته ولكن السيناريو الذي كتبه الثنائي. «جوزي ريفيرا» و«تيم سوليفان» يرسم طريقة مشوقة تماما ومتماسكة لكي تسرد بها هذه المعلومات، ولكي تتحدد ملامح الشخصيات، يمكنك أن تتحدث هنا عن ثلاث مراحل: في الأولي نتعرف سريعا علي «صوفي» التي تعمل في «نيويورك» كمدققة معلومات في جريدة «نيويوركسر» مهمتها تنحصر فقط في الاتصال بالمصادر لتأكيد ونفي معلومة، ولكنها لا تكتب موضوعات، كما نتعرف علي خطيبها عاشق المأكولات الإيطالية، والذي يسافر إلي «فيرونا» أساسًا لجلب المأكولات لمطعمه الجديد، وهناك يغيب عنها في رحلات غذائية في حين تتعرف هي علي بيت «جولييت»، وعلي السيدات اللاتي تقمن بالرد علي الخطابات، وتشاركهن في المهمة بما يتسق مع حبها للكتابة، ثم تكتب خطابها للفتاة الإنجليزية التي كتب خطابها القديم منذ نصف قرن. تبدأ المرحلة الثانية مع وصول العجوز «كلير» «الرائعة فانيسا ريد جريف» وهي في سن الخامسة والسبعين للبحث مع حفيدها «شارلي» عن حبيبها القديم «لورنزو» في محيط منطقة «سينيا»، وتتفرع خطوط هذه المرحلة في اتجاهين: عمليات البحث الطريفة بعد حصر الأسماء في (74) اسمًا من العواجيز، والتقارب بين «شارلي» و«صوفي» رغم الجفاء المتبادل في أول اللقاء، وتنتهي هذه المرحلة بالعثور علي «لورنزو» المطلوب، وعودة «صوفي» مع «فيكتور» خطيبها إلي «نيويورك». تبدأ المرحلة الأخيرة بما يمكن أن نسميه «حصاد الحب، «صوفي» تكتب القصة التي رأتها بجمع حبيبين بعد نصف قرن لتصبح صحفية بعد أن كانت مجرد مدققة في المعلومات، «صوفي» تصارح «فيكتور» بأنها تغيرت، ولا يمكن أن تكون ملائمة له، «صوفي» تعود إلي «فيرونا» لحضور حفل زفاف «كلير» و«لورنزو»، وهناك تحدث النهاية السعيدة بأن تصارح «شارلي» بحبها. هذه لقطة بعيدة للسيناريو البديع الذي يبدو بسيطًا، ولكن ما أن تقوم بعمل لقطة قريبة حتي تكتشف تفصيلات شديدة الذكاء فكرة الحب العابر للأزمان تجد تجسيدها في قدرة «چولييت» التي انتحرت مع حبيبها منذ عشرات السنين علي أن تكون مُلهمة لكل عشاق العالم، وتجد تجسيدها في استعادة «كلير» لحبها المفقود منذ خمسين عامًا ليصنعا بدون مبالغة - أحد أجمل قصص الحب التي شاهدتها علي الشاشة الكبيرة، وفكرة عدوي الحب تتجسد في قصة الجيل الأحدث بارتباط «شارلي» الإنجليزي مع «صوفي» الأمريكية القادمة مع خطيبها، وفكرة الفرصة الثانية تجد تجسيدها في تصحيح «كلير» لخطئها بالهروب من حبيبها عام 1957 لتعود إليه بعد نصف قرن، وتجد تجسيدها في اكتشاف «صوفي» للحب الصادق مع «شارلي» بدلاً من «فيكتور». لو اقتربت أكثر للشخصيات لوجدت تفصيلات شديدة العذوبة: «صوفي» فقدت أمها في سن التاسعة بعد هروب الأم من المنزل، و«شارلي» فقد والديه في حادث سيارة في سن العاشرة، وتولت جدته تربيته، وتُستغل هاتين المعلومتين في تحقيق التقارب بين «شارلي» و«صوفي» رغم صدامهما المبدئي، وفي تفسير جفاف «شارلي» في معاملته للآخرين رغم عواطفه الحارة، كما تستغل المعلومة في أن تقوم «كلارا» بدور الأم للاثنين معًا فتحاول التقريب بينهما، بل أنها تقوم بتصفيف شعر «صوفي» في أحد أكثر المشاهد عذوبة وجمالاً. حتي الشخصيات الأخري بما فيها تلك التي ظهرت في لقطة واحدة تقدم بصورة غير نمطية، «فيكتور» مثلاً غير مناسب ل«صوفي» رغم أنه يحبها، ولكنه شخص طيب يعرف أنها تراجعت فيحاول أن يعيدها ثم يستسلم، و«لورنزو» العجوز (فرانكو نيرو) يبدو كفارس تحيط به هالة من الحضور الأخاذ، إيطالي تمامًا أطلق علي ولده نفس اسمه «لورنزو بارتوليني»، وأطلق نفس الاسم علي الحفيد، وعندما تشاهد «كلير» بعد البحث الطويل الظريف والمضحك صورة الحفيد تستعيد صورة حبيبها وعيونه الزرقاء، وهنا يظهر الجدّ علي حصانه ليقدم للفيلم بعثًا جديدًا بعد أن كنا قد توهمنا أنه قد مات! لو اقتربنا أكثر من النهاية لوجدنا أن السيناريو الذكي ضرب أكثر من عصفور بحجر: قدّم التحية «لشيكسبير» و«فيرونا» و«چولييت» معًا لأنهما يبعثون الحب في نفوس عشاق الدنيا، وقدم نهايتين سعيدتين وليس نهاية سعيدة واحدة كما في معظم الأفلام الرومانسية، وذلك بزواج «لورنزو» و«كلارا»، ومصارحة «صوفي» ل«شارلي» بحبها علي طريقة مشهد شرفة «چولييت» الشهير وقدمت النهاية أخيرًا قصيدة حب للحب نفسه كمصدر للسعادة علي طريقة كل الجنسيات، علي الطريقة الأمريكية البراجماتية أصبحت «صوفي» صحفية أخيرًا بكتابة قصة حب «لورنزو» و«كلارا»، وعلي الطريقة الإيطالية التي تجعل الحب احتفالاً بالحياة حيث أصبحت «فيرونا» عاصمة الحب السياحية، وعلي الطريقة الإنجليزية حيث يقول الفيلم بوضوح أن وراء المظهر البارد والمتحفظ قلوبًا عاشقة مليئة بالعاطفة سواء عند «كلارا» أو عند حفيدهها «شارلي» ثم أن الذي خلّد قصة «چولييت» و«روميو» شاعر إنجليزي اسمه «شيكسبير»! ربما كان الفيلم يحتاج إلي تهدئة الإيقاع أكثر في مشاهد «فيرونا» الرائعة، ولكن المخرج الإيطالي الحساس «جاري فينيك» نجح ببراعة في استغلال جمال الطبيعة وملاءمة كل ممثل لدوره خاصة المدهشة «فانيسا ريدجريف»، التي أضحكتنا وهزتنا من الأعماق في كل مشاهدها، وكم كان ذكيا أن يكون «لورنزو» الذي بحثت عنه طوال نصف قرن هو حبيب عمرها في الواقع «فرانكو نيرو»! والآن.. هل اقتنعت أخيرًا أننا باحثون عن الجمال في الكنوز المدفونة، ولسنا أبدًا من «حانوتية الأفلام»؟!