مسرحية "حرائق" للكاتب الكندي اللبناني الأصل وجدي معوض تم اقتباسها للسينما وعرضت هذا الشهر في قاعات العرض الكندية الفرنسية. مسرح وجدي معوض طاقة فنية تهدرها رغبته في استدرار التعاطف وسقوطه الدائم في فخ المشاعر الفياضة والمفاجآت الدرامية المتوقعة. الفيلم يطرح بشكل أكثر تقشفا قضية الحرب الأهلية اللبنانية التي سبق أن طرحها الكاتب في عدد من مسرحياته الطويلة مثل "ساحل" و"أحراش". "حرائق" من إخراج مخرج كيبيكي واعد هو "دوني فيلنوف" حاز علي جائزة أفضل فيلم كندي من مهرجان تورونتو هذا العام. استطاع فيلنوف أن يفلت من تطويل وميلودرامية النص المكتوب، وأن يقتبسه بحرفية واختزال مستلهما روح المأساة الإغريقية وبنية مركبة تسمح بالتداخل الزمني بين الماضي والحاضر في رحلة بحث واكتشاف لأسرار وجذور أسرة لبنانية كندية. يقترب الفيلم بحذر من وقائع الحرب ويعلو بها لمنطقة يصعب معها اتخاذ موقف سياسي محدد من الفصائل المتحاربة أو تعيين المسئول عن تلك الفظائع سواء من جانب المسلمين أو المسيحيين، اللبنانيين أو الفلسطينيين، العرب أو الاسرائيليين. الفيلم، كما هو الحال في المسرحية، لا يشير بوضوح إلي هؤلاء أو أولئك ولا يستخدم المفردات السياسية بشكل واقعي، إنما يكتفي بتفاصيل خارجية من نوعية الإشارة للمتحاربين باستخدام أيقونات مثل الصليب أو الحجاب لتعيين المسئولين عن العنف الوحشي من الجانبين. يحكي الفيلم قصة توأمين كنديين نخمن أنهما من أصل لبناني مسيحي، ماتت أمهما في مونتريال وتركت لهما وصية غريبة: أن يقوما بتسليم رسالتين، واحدة لأبيهما الذي كانا يظنان أنه مات منذ سنين، والأخري لأخيهما الذي لا يعرفان عن وجوده شيئا. الأم تشترط علي الأخ وأخته التوأم ألا يقوما بدفنها كما ينبغي إلا بعد العثور علي الأب والأخ وتسليم الرسالتين. تبدأ الابنة رحلة اكتشاف لتاريخ الأم قبل الهجرة ويتابع المتفرج بشغف الأسباب التي جعلت من الأم تلك "المخبولة" كما يصفها ابنها في بداية الفيلم، فالأم عاشت وقائع الحرب الأهلية قبل الهجرة، نشأت في أسرة مسيحية من الجنوب وأنجبت ابنا غير شرعي من أب مسلم من المخيمات قتله إخوتها للتغطية علي فضيحة العلاقة بين مسيحية ومسلم. الأم فقدت ابنها ليلة مولده، وضعته القابلة في ملجأ للأيتام، وبعدها اندلعت الحرب. أهل القرية اعتبروا مولد هذا الابن (من أم مسيحية لبنانية وأب مسلم فلسطيني) سببا في كارثة الحرب وأنكروا الوشائج الإنسانية والتاريخية التي من شأنها أن تربط بين الدينين أو بين القوميتين. القرية هاجمتها قوات مسلمة ودمرتها عن آخرها وأبناء الملجأ تم تجنيدهم في فصيل قائد الحرب المسلم شمس الدين. في مشهد رائع عن فظائع الحرب، تعود الأم إلي الجنوب بعد سنوات بحثا عن ابنها. تنزع الصليب عن رقبتها وتغطي شعرها بإيشارب وتستقل باصا يقوده سائق ملتح بصحبة نساء محجبات. بعد قليل، نري مسلحين ملثمين يضعون صورة مريم العذراء علي أسلحتهم يوقفون السيارة ويطلقون النار علي كل من فيها من نساء وأطفال ثم يشرعون في حرقها. البطلة تصرخ وترفع الصليب عاليا وتحاول إنقاذ طفلة مدعية أنها ابنتها. يتركها المسلحون تغادر السيارة مع الطفلة فيما نري أم الطفلة تواجه الموت حرقا. الطفلة تصرخ طالبة العودة لأمها، وتفلت من يدي البطلة وتجري صوب الباص المشتعل فترديها طلقة نار ميتة. وحشية المسلحين المسيحيين تقابلها وحشية القناص الذي يعمل لحساب المسلمين وهو يقتل الأطفال ويغتصب الأم. وحشية غادرة قاتمة صماء، لا تصاحبها كلمات، تترك المتفرج أمام موقف أخلاقي واحد لا مفر منه، موقف يدين كل حامل سلاح أيا كانت عقيدته أو لونه أو الأسباب والذرائع التي يبرر بها ساديته. نعرف قرب نهاية الفيلم أن الابن التائه الذي يبحث عنه التوأمان أصبح قناصا شهيرا يعمل لمصلحة المسلمين. عندما تم القبض عليه عينته الفصائل المسيحية المتطرفة جلادا في سجن شهير في الجنوب موالاً لمن يطلق عليهم الفيلم اسم "الأعداء" (المقصود الإسرائيليين). ويعرف التوأمان أن الأم، رغم أنها مسيحية، شاركت في عملية من تنظيم شمس الدين لاغتيال قائد اليمين المسيحي المتطرف الموالي للأعداء، وأنها سجنت وتم تعذيبها واغتصابها في السجن الجنوبي، وأنها اشتهرت بلقب المرأة التي تغني لأنها كانت تغني رغم التعذيب وظلت طوال سنوات السجن تحلم بالعثور علي ابنها التائه. ثم يكتشفان بعد بحث وتنقيب أنهما ولدا في السجن، بعد أن تم اغتصاب أمهما عدة مرات، وأنهما انتقلا إلي كندا معها بعد انتهاء الحرب وأن المسئول عن تهريبهم هو القائد شمس الدين. يكتشف الابن في لقاء مع شمس الدين يكتنفه الغموض والتوتر أن القناص الذي أصبح سجانا هو نفسه الأب والأخ، وأنه هاجر مثلهم إلي كندا. تتجمع خيوط الحكاية وينجلي السر حين نعود للحظة بداية الفيلم لنري الأم وقد تعرفت علي ابنها التائه من علامة في قدمه، ذات نهار في مسبح في مونتريال، ثم لحظة تعرفها علي الجلاد الذي اغتصبها في السجن من وجهه وهو يلتفت ناحيتها. لقطتان قريبتان للقدم (الابن) والوجه (الجلاد/الأب) لا يجمع بينهما جسد، كأنهما شخصان مختلفان، والأم يصيبها اعياء مفاجيء وتصمت من المفاجأة ثم تموت في المستشفي بعد إملاء الرسالتين علي كاتب الوصية. يسلم التوأمان لابيهما وأخيهما الرسالتين، ونسمع صوت الأم وهي تكشف للأب المغتصب إنها سجينة الزنزانة 72 وأن من سلمه الرسالة هما ولداه، ثم وهي تقول للابن إنها ظلت تبحث عنه طيلة حياتها وإنها ستظل تحبه رغم كل شيء وتوقع باسم المرأة التي تغني. ينتهي الفيلم بالابن/أوديب أمام شاهد قبر أمه وكأن الحرب الأهلية هي ملخص لتلك العلاقة العبثية بين أم وابنها المغتصب. ورغم الروح الأوديبية المفتعلة التي تسحب الفيلم لمنطقة الميلودراما علي طريقة ألمادوفار، يظل الفيلم في رأيي من أقوي أفلام الحرب الأهلية في لبنان. [email protected]