بعد ستين عاما علي نشره في فرنسا، صدرت أول ترجمة أمينة إلي الإنجليزية لكتاب «الجنس الآخر» للناشطة الفرنسية المعروفة سيمون دي بوفوار. وصاحبتا هذا الإنجاز أستاذتان وناشطتان في الحركة النسائية ومترجمتين بال«نيويورك تايمز»، وهو ما اعتبرته سيلفي لوبون دي بوفوار الابنة بالتبني للكاتبة حدثا في حد ذاته. حيث كان الناطقون بالإنجليزية يقرأون منذ عام 1953 نسخة مشوهة وترجمة مجتزأة للكتاب الخاص بتاريخ المرأة، والمكون في لغته الأصلية من ألف صفحة. الحكاية تعود إلي خمسينيات القرن الماضي، وقتها كان كتاب «الجنس الآخر» يلقي رواجه في فرنسا ضمن أفضل المبيعات، وحصلت الناشرة الأمريكية بلانش كنوف علي حقوق ترجمته، ورأت فيه دليلا جنسيا رفيع المستوي. أما المترجم فكان هوارد ماديسون بارشلي، البروفسور في علوم الحيوان، الذي تدخل في النص الأصلي سواء بالاختصار الشديد أو تبسيط الجمل المعقدة وإهمال النقاط والفواصل، أو إلغاء المقاطع المبهمة، وحذف المراجع التاريخية والأدبية التي استندت إليها الكاتبة، والأخطر تقديمه لتفسيرات معاكسة ومغلوطة للمفاهيم الفلسفية لدي هيجل أو كانت مما تناولتها دي بوفوار. ورغم ذلك أصبح «الجنس الآخر» في نسخته المبتورة أحد الكتب المقدسة لدي الحركة النسائية الأمريكية. مع بداية الثمانينيات، احتجت أستاذات للفلسفة بجامعات أمريكية علي مغالطة هذه الترجمة الفاضحة، واكتشفت دي بوفوار الخطأ الذي لحق بكتابها عندما كتبت لها عنه البروفسورة في الفلسفة في جامعة إلينوا الجنوبية مارجريت سيمون عام 1982، وردت عليها الكاتبة قبيل أربعة أعوام من وفاتها قائلة: «أذهلني أن أري إلي أي مدي شوه السيد بارشلي كتابي، وأتمني من أعماق قلبي أن تستطيعي نشر ترجمة جديدة عنه». وفي 1999، وخلال مؤتمر عقد في باريس لإحياء الذكري الخمسين لنشر «الجنس الآخر» في فرنسا، طالبت كل من كونستانس بورد وصديقتها شيلا مالوفاني بإعادة ترجمة الكتاب، وتقدمتا بهذا الاقتراح إلي المسئولة عن حقوق النشر لدي جاليمار ناشرة الكتاب. وكانت أمام الدار الفرنسية العريقة مهمة إقناع صاحب حقوق النشر بالإنجليزية في أمريكا دار كنوف، ثم في عام 2003 جاءها الرد من الدار بأنه «ليس ثمة قانونًا يبيح إعادة الترجمة». إلا أن جاليمار أصرت علي طلبها لأن «الأنجلو أمريكيين هم الوحيدون في العالم الذين لم يقرءوا كتاب الجنس الآخر كاملا وبشكل صحيح»، وأن إعادة نشره خطوة صائبة يمكنها أن تحقق نجاحا تجاريا كما حصل سابقا في النرويج عام 2000، حيث بيعت 20 ألف نسخة من الترجمة الجديدة للكتاب خلال شهر واحد. في 2004، خرجت القضية من مجرد دائرة الحركة النسائية إلي الصحافة، عندما نشرت سارة جلازر مقالا ب«النيويورك تايمز» لما وصفته سيلفي دي بوفوار بالفضيحة، وعلي إثر ذلك اتجهت جاليمار إلي بريطانيا هذه المرة، حيث كان الناشر جوناثان كالب قد اشتري حقوق الترجمة الأولية من كنوف عام 1953، وبفضل قارئة تدعي إيلاه ألفري تداول أمر إعادة ترجمة «الجنس الآخر» علي صفحات ال«فيس بوك»، حيث وضعت إشارات عن الكتاب في صفحتها علي الموقع الاجتماعي الأشهر، وتلقت تعليقات وردود أفعال داخل أمريكا وخارجها، وأخيرا اتفقت دار كالب وكنوف علي تقاسم تكاليف ترجمة الكتاب الجدلي، فيما توخت الترجمة الجديدة الأمانة الشديدة في نقل أسلوب دي بوفوار. تعليقا علي دور ال«فيس بوك« في الأخذ بثأر سيمون دي بوفوار بعد كل هذه السنوات، راجع مقالاً حديثًا ب«النيويورك تايمز» تاريخ الكتاب منذ عام 1946، عندما بدأت سيمون دي بوفوار في إعداد دراستها التاريخية للمرأة وشجعتها الظروف التشريعية التي كانت لا تسمح للنساء الفرنسيات بالتصويت حتي عام 1967 . أثار نصها هذا عندما نشر لأول مرة في فرنسا في عام 1949، العديد من الجدال واعتبر من أدبيات الحركة النسائية، حتي أن الفاتيكان وضعته علي رأس قائمة الكتب المقدسة بعد الإنجيل، وكتب ألبير كامي مرة أنه بكتاب بوفوار هذا بدي الرجال الفرنسيون سخفاء، فيما انتقد بعض علماء النفس الكتاب علي اعتبار أنه «مليء بلغة وجودية مثيرة للاشمئزاز». ترجمة كونستانس بورد وشيلا مالوفاني الجديدة لكتاب «الجنس الآخر» في 800 صفحة، هي أول ترجمة إنجليزية تستعيد ما رفعه بارشيلي من النص الأصلي، ذلك العمل المذهل والعاطفي الذي اختبرت فيه دي بوفوار الأسباب التي تجبر النساء علي قبول تبوء مكانة الدرجة الثانية بعد الرجال في المجتمع. وقد دعمت دي بوفوار حججها ببيانات من علوم الأحياء وعلم وظائف الأعضاء وعلم الأعراق البشرية (الأنثروبولوجيا) والأساطير والفولكلور والفلسفة والاقتصاد. في واحد من أكثر فصول الكتاب إثارة بعنوان «المرأة المتزوجة»، وهو الفصل الذي تجاهله وهاجمه بارشلي مترجم النص المبتور، ارفقت دي بوفوار اقتباسات لروايات ومذكرات فرجينيا وولف وصوفيا تولستوي، ودققت من ناحية أخري في كتابات الرجال عن المرأة من أمثال مونتين وستاندال ود. ه. لورانس، حتي أنها في حالات كثيرة تطرقت إلي كيفية تعاملهم من زوجاتهم. تضمنت رسائل دي بوفوار أيضا حث النساء علي المثابرة وبذل المزيد من الجهد من أجل التحرر، ومن أجل الرجل أيضا. ومن أمتع فصول الكتاب ذلك الذي يتحدث عن المرأة الفنانة والمثقفة، تتساءل فيه دي بوفوار: لماذا لا يشار إلي المرأة التي تعمل في مجال الفن بنفس العظمة التي يشار بها إلي الرجل؟ وتجيب بأن ذلك راجع إلي رغبة المرأة الدائمة في نيل الرضا، وبما أن النجاح والتحقق هو حليف الكاتب الصريح والفضائحي، فالمرأة لا تنجح لأنها تحرم أدبها من الكشف والفضح والانفجار أو حتي الغضب، رغبة في نيل رضا مجتمعها الذكوري. تقرير ال«نيويورك تايمز» عن الترجمة الجديدة لل«الجنس الآخر» يفاجئنا في إجابته عن سؤال: أية مقارنة تجمع بين هذه الترجمة بسابقتها؟ بأن النص في ترجمته الأحدث يبدو وكأنه يوجه للمرأة ضربات. أما تعليل ذلك كما جاء بالتقرير هو أن سيمون كتبت نصها هذا في وقت كانت فيه أقلية نسائية هي التي كانت تعمل، وكانت حججها الرئيسية هي دفع المجتمع نحو توظيف النساء وإشراكها في قوة العمل. بينما تبدو الآن مثل تلك الأفكار والمطالب ساذجة وعفا عليها الزمن. فكرة أخري محورية في كتابها «الجنس الثاني»، هي مقولتها الشهيرة الجدلية «لا يولد الإنسان امرأة بل يصبح كذلك»، والتي مازالت تمثل زعما منافيا للعقل، أما تفسير دي بوفوار فهو أن الزواج والأمومة مؤسسات تحد من حرية الأنثي، وتساهم في تشكيل صورتها المستعبدة. عامل الوقت الذي يظلم الترجمة الأكثر أمانة للنص الأصلي، لن ينفي إتاحة ذلك العمل التاريخي للجيل الجديد، الذي سيتعرف من جديد علي نضال امرأة كانت تقسو علي نفسها بمقولة: «يا لها من لعنة أن تكون امرأة»، كي تحول تلك «اللعنة» إلي «بركة».