سوزان عليوان شاعرة لبنانية تخرج علينا بين الحين والأخر بديوان يضيف إلي رصيدها عند قرائها في أنحاء الوطن العربي، الذين عرفوها بالدقة.. وميزوها بندرة أعمالها التي كان آخرها ديوان «ما يفوق الوصف»، الذي صدر في طبعة خاصة وقامت بتوزيعه علي أصدقائها، وهو الديوان الثاني عشر لسوزان التي تتيح كل دواوينها مجانا لزوار موقعها علي شبكة الإنترنت، وتسمح لهم بطباعتها مع نصيحة بأن يثبتوا أوراق ديوانها معا بشريطة حمراء! ولدت عام 1974 في بيروت لأب لبناني وأم عراقية، تخرجت في كلية الصحافة والإعلام بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة، تعيش حاليا في بيروت، ولكنها علي سفر دائم، وكان لنا معها هذا الحوار عبر الإنترنت. في رأيك ما ذاك الذي يفوق الوصف في الكون؟ - كل ما في الكون يفوق الوصف، حاولت في هذا الديوان أن أقبض علي لحظة النار، بعد الشرارة وقبل الرماد، في ذروة الروح والجناح، حلمت أن تكون القصيدة هي الشمعة، مضاءة ومضيئة، لا وعدها في الظلام ولا ذوبانها الأفقي كجثة، في الديوان، شخص بعينه هو ما يفوق الوصف، ضحكته، حضنه، خطوته البيضاء علي الأرض، وجوده في الحياة، هو حالة عشق، واقع بروعة حلم، معجزة من لحم ودم، ومن ثم من كلمات. ما يفوق الوصف هو أن نحب ونطير عاليًا، ونكتب من فوق الغيم، ونحن نعي تمامًا بأن سقوطنا حتمي، في الحياة كما في القصيدة، ما يفوق الوصف هو من نحب، من يستحق طيراننا وسقوطنا. كيف ترين ديوانك بين أعمالك السابقة وبم تصفينه؟ - لا أميل إلي تقييم كتابتي في العلن، رغم أنني، بيني وبين نفسي، أول النقاد، وأظنني أحيانًا أشدهم قسوة. أشعر أنه علي الشاعر أن يقيم كتاباته السابقة بكتابة جديدة، تصحح أو تكرس أو تفتح أفقًا غير مسبوق في تجربته، في التقييم والنقد، شيء من الادعاء، فما بالك لو صدر عن الشاعر نفسه؟ لكنني أستطيع أن أتحدث عن إحساسي بالديوان، أشعر أنه قريب مني، يشبهني الآن، في هذه المرحلة من حياتي، هو لحظتي الراهنة في المرآة، كما أشعر وآمل أن يكون بداية جديدة لي، نافذة علي جهة أخري، طريق غير الذي سلكته من قبل في الغابة، فضاء مفتوح علي ألف شمس واحتمال، هذا الوسع هو أكثر ما يعنيني في التجربة، هذه الخفة البيضاء التي غابت عن المجموعات السابقة، والتي ارتكزت علي أجنحتها بداياتي، هذه العودة إلي الجذور، ومحاولة الانطلاق أبعد من الأغصان، الديوان فتح شهيتي علي الحياة والكتابة، استطاع لا أعرف كيف، أن يغلق أبوابًا ظلت مواربة لزمن طويل، وأن يفتح العالم كهدية في يدي، أظنه يمهد لقادم أجمل، أتمني ذلك، الهاوية ورائي بعد «ما يفوق الوصف»، هذا ما كنت أردده علي امتداد التجربة، وأشد ما يرعبني أن تعيدني إليها استدارة الأرض! عنوان الديوان مربك وخادع، يدل مرة علي السعادة ثم نفاجأ بكم من الحزن والفزع، هل قصدت هذا التضليل؟ - في الحالتين، الحالة تفوق الوصف، ويلائمها برأيي العنوان، جاء العنوان بعد عناوين أخري كثيرة، كما يحدث مع معظم دواويني، أحببته منذ اللحظة الأولي، وقلت: هذا هو! انحزت لبساطته ووسعه، وراق لي أنه يمجد الحياة أكثر من الشعر، ويضع اللحظة فوق اللغة، والعاطفة قبل أي اعتبار آخر، أردته إضاءة، لا يافطة. لماذا اختيار البعد سواء بالابتعاد عن حفلات التوقيع أو بتوزيع ديوانك عبر البريد؟ - يؤرقني هذا القارئ المجهول، وأشعر بالذنب والتقصير تجاهه، لكنني حتي الآن لم أجد آلية أخري غير يدي، وأيدي الأصدقاء، وطوابع البريد، وموقعي علي الإنترنت، لتوصيل دواويني كما يليق بي وبقارئي، وللعلم، دواويني الأخيرة متوفرة في مكتبتين فقط في القاهرة، بشكل استثنائي لأن صاحبتا المكتبتين صديقتي، ولثقتي فيهما وفي محبتهما واحترامهما لي ولكتبي، أضع بعض النسخ عندهما. كل تفاصيل وفعاليات النشر الأخري تتعارض مع قناعاتي، فأنا أحرص علي كرامة كتبي، علي أناقتها وبساطتها، علي دقة إنجازها شكلاً ومضمونًا، علي عدم خضوعها للتسويق كسلعة، ومعظم دور النشر والمكتبات لا تراعي هذه الشروط الجوهرية، تتعامل مع ديوان الشعر علي أنه قطعة عدم، وتفضل عليه الرواية وكتب الخزعبلات والأبراج والطبخ! فليسامحني قارئي، أرفض تمامًا إهانة نفسي ونصي. وقد تجرأت علي نشر أعمالي من خلال دار نشر مرة واحدة منذ ثلاث سنوات، وكانت مختاراتي «بيت من سكّر»، وصدرت ضمن سلسلة «آفاق عربية» عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر. هل نشرك علي نفقتك الخاصة نوع من رفض واقع دور النشر التي تدفع المبدع للدفع مقابل النشر؟ - حين هممت بنشر ديواني الأول «عصفور المقهي»، عام 1994، لم يخطر لي للحظة أن أحمل مخطوطته وأذهب بها إلي دار نشر، كان كبريائي (وما زال) يمنعني من أن أطرق باب أحد، جمعته وحدي في القاهرة من قصاصاتي الباريسية، وأنجزته لاحقًا في مكتب كمبيوتر قريب من بيتي، وظللت أجمع من مصروفي لأشهر لأستطيع أخذه إلي الطباعة، حتي أنني لم أطلب مساعدة من أسرتي، والتي كان يسرها ويمكنها أن تقدم لي أي شيء وكل شيء، وحين اكتمل المبلغ التقريبي، والذي كنت قد اتصلت بأكثر من مطبعة لأعرفه، ذهبت إلي «الفجالة» ودخلت مطبعة قديمة، وعدني اصحابها الرجل الطيب وابنته بتحويل أوراقي إلي كتاب في أسبوعين، هناك، في تلك المطبعة الصغيرة المتواضعة، طبع ديواني يدويًّا علي آلة صدئة، ومن هناك خرج معي إلي شوارع القاهرة وناسها. تلك التجربة، والتي حين أتذكرها الآن أبتسم من أعماق قلبي، منحتني الثقة والقوة لأكررها علي مر السنوات والدواوين، في السنوات الأخيرة، ومع الديوانين الأخيرين تحديدًا، «دار الجديد» قدمت لي الكثير أيضًا، الديوانان لم يصدرا رسميًا عن الدار، لكن ما قامت الدار به من أجلهما يفوق ربما ما تقوم به لإصدراتها، من له أصدقاء كأصدقائي، ومن استطاع أن يضع قدميه علي الطريق وحده منذ البداية، كيف يقبل بواقع دور النشر العربية؟ لم أطلب اعترافًا من أحد حين كنت في العشرين من عمري، بلا ديوان واحد، فهل أطلبه الآن، وقد أصدرت كل دواويني بنفسي وأوصلتها إلي الناس دون وسيط. هذا يدفعني لسؤالك عن رأيك في واقع الشعر العربي؟ - واقع النشر العربي مخزٍ، تخيلي أن هنالك دور نشر بلا مصحح لغوي، ولا تخجل من ذلك! ثمة كتب تتصدر المبيعات أشك أن كاتبها نفسه قد قرأها، من كثرة الأخطاء فيها، أحب كتبي جميلة أنيقة، تليق بي وبقارئها، ولا أقبل أبدًا أن أدفع مقابل النشر عند أحد، أو أن ينفق أحد سوايا علي شعري من باب التكارم علي الثقافة، هو موقف شخصي لا أدين به الآخرين، فهم أحرار في خياراتهم، وأحترم اختلافهم وظروفهم، لكن هذا طريقي الذي سلكته منذ البداية، وبات من الصعب أن أحيد عنه، ويبقي الأمل في أن أجد يومًا جسرًا لا يتعارض مع طريقي، بل يضيئه، ويقرب بين قارئي وبيني.