بالإنجليزية، اسمه الثانكسجيفينج، وبالفرنسية أكسيون دوجراس. شكر علي هبة أمريكا للأمريكيين، يحتفل به الأمريكيون في نوفمبر، رابع خميس في الشهر، ويحتفل به الكنديون في أكتوبر ثاني إثنين في الشهر. يوم الإثنين الماضي دعوت بعض الأصدقاء إلي مائدة عامرة يتربع عليها ديك رومي مهول يزن ثمانية كيلوجرامات إحتفالا بالثاكسجيفينج. كنت أعتقد أن هذا اليوم يوم احتفال ديني، والسبب في هذا الاعتقاد ارتباط الاحتفال بتناول الديك الرومي، نفس الديك الذي تتباري النساء في إعداده في الكريسماس، ويحل محله أحيانا لحم الخنزير المدخن في الاحتفالات الريفية. أتصور كل عام أن العيد له علاقة بالدين، أظنه عيدا من أعياد القديسين أو مناسبة من المناسبات الدينية المسيحية، ويذكرني الأولاد بأنه عيد الشكر علي هبة أمريكا للأمريكيين. وأنسي مرة ثانية، وفي ذهني أنهم يشكرون الله ولا أحد غيره ولذلك لابد أنه عيد ديني. بحثت في أصل العيد ووجدته دينيا بلا محيص! الفرق أن الأمريكيين الشماليين قد حولوه إلي عيد مدني أو علماني، وأن بعض قبائل الهنود من سكان أمريكا الأصليين يذكرونه بمناسبة حروب الإبادة التي شنها الأوروبيون محتلو أمريكا الشمالية ضد الهنود في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. في البداية كان الثانكسجيفينج عيد حصاد مما يفسر توقيته بعد بداية موسم الخريف، وهو شبيه بعيد الحصاد اليهودي، وكانت الكنائس تحتفل بالعيد ويتم تزيينها بكيزان الذرة وثمار القرع البرتقالية. ثم أصبح الكنديون يربطون العيد بوصول المكتشفين الأوائل إلي شواطئ كندا والاحتفالات التي كانوا يقيمونها لشكر الرب علي وصولهم إلي القارة الجديدة بعد ما لاقوه من أهوال أثناء عبور المحيط الأطلنطي. لهذا السبب يظل للاحتفال حضور خاص في الأقاليم الساحلية مثل هاليفاكس واللابرادور. بعد فترة من التردد في تحديد شكل الاحتفال وتاريخه ودواعيه استمرت قرناً أو أكثر من الزمان، استقر الكنديون علي اعتبار ثاني إثنين من شهر أكتوبر عيدا للشكر، وأصدر البرلمان الكندي قرارا بهذا الشأن عام 1957 ينص علي "تخصيص اليوم لتقديم آيات الشكر لله العلي القدير علي نعمه التي أنعم بها علي الشعب الكندي..." الديك الرومي له مكانة خاصة في العيد. أولا لأن الأوروبيين اكتشفوا هذا الطائر الداجن في العالم الجديد وخاصة في المكسيك واكتشفوا أيضا أن لحمه لذيذ ودسم ويمكن تقديده. وثانيا لأن حجمه يصلح للم شمل العائلة والأصحاب ويكفي ويفيض بعد العيد. تنتهز الكنائس والجمعيات الخيرية فرصة عيد الشكر لتوزيع الطعام علي الفقراء ليلة العيد، بعد قداس الأحد، تشترك في ذلك الجمعيات الدينية والعلمانية علي السواء. الجمعية الثقافية المصرية في أوتاوا مثلا نظمت ليلة لتوزيع الطعام الأسبوع الماضي. أما الحفل الخاص الذي أقمته لأصحابي بالمناسبة السعيدة فكان مجرد حجة للقائهم والاحتفال معهم بالعيد، أي عيد. لم أكن أثق بقدرتي علي تخصيص يومين كاملين للطهو، فعلاقتي بالمطبخ علاقة مبتورة لأسباب أعجز عادة عن شرحها. العجز سببه أني امرأة وأم لولدين وشرح كرهي للطبخ يقابله دائما امتعاض أو حذر مقرون بعدم التصديق أو ضحك متشنج يشعرني بالخجل. يومان كاملان قضيتهما في إعداد المائدة لأستعيد لقب المرأة الشملولة الذي فقدته منذ سنوات، ولأن الديك وحده لم يكن يكفي لاستعادة اللقب ناهيك عن إطعام المدعوين. مائدة الثاكسجيفينج التقليدية يجب أن تضم تورتة للفواكه، إما التفاح أو القرع، ونوعا من حساء الخضروات، وبيوريه البطاطس بالثوم، والفاصوليا الخضراء المطبوخة، بالإضافة للديك المحشو بشرائح السلق المتبلة وحبات الثوم وشرائح الليمون والعصفر والبرتقال البلدي والمغطي بطبقة من المستردة والبهارات الحارة. من قبيل التجديد أضفت للمائدة التقليدية طبق بامية بالدمعة والثوم وخرشوف مطبوخ بخلطة البهارات الإيطالية وأرز بالقرفة والزعفران الهندي وصينية لحم بقري في الفرن بالكمون وزيت الزيتون وشرائح البصل. الأصحاب جميعهم من أصول عربية، من لبنان ومصر واليمن وإسبانيا. صديقتي اليمنية أضافت للمائدة صينية ريش ضأن وصديقتي اللبنانية أضافت سلاطة فتوش وصديقتي المصرية اشترت من أحسن حلواني عربي في أوتاوا قطائف محشوة بالمكسرات أما صديقتي البريطانية المتزوجة من إسباني فقد أحضرت نبيذا ووردا. الصديقات جئن بصحبة أزواجهن وأولادهن والبيت الصغير اتسع فجأة لستة عشر شخصا والكل يتحمس لأكل البامية مع الأرز، والتلذذ بريش الضأن بمصاحبة الخضروات والفتوش، وينسون الديك. نصف الديك بقي في الطبق المزين بأوراق الخس حتي نهاية الحفل، تولي زوجي تقطيعه وتوزيعه علي علب البلاستيك استعدادا لوضعه في الثلاجة. فيما عدا ذلك لم يبق الضيوف علي شيء. كنت سعيدة وأشعر بالانتصار علي عاداتي السيئة التي لازمتني منذ سنوات وفرضت علي كره المطبخ ونبذ الأنشطة المرتبطة بالطهو. كنت سعيدة بلمة الأصحاب من حولي وبالخير الوفير الذي أوحت به المائدة ونحن ملتفون حولها. لابد أننا كنا علي اختلاف دياناتنا نشكر الفرصة التي جمعتنا معا، أو نشعر بالامتنان للمصادفة التي جعلت عيد الحصاد عيدا للكنديين المهاجرين مثلنا، أو ننسي هذا وذاك ونتذكر فقط أن للطعام مذاقا حلوا بصحبة الأصحاب لذلك نكثر من الأكل والشرب والضحك والمنادمة. البيت كندي والعيد كندي والذكري تحملني علي أجنحتها إلي مصر الجديدة، يوم اشتري أبي ديكا روميا مطبوخا ومقطعا إلي شرائح مرصوصة بأناقة في طبق سرفيس كبير مزين بالخضروات والأرز بالخلطة وذلك بمناسبة عودة أمي من السفر بعد غياب سنة. وصل الديك قبل وصولها بدقائق، واستقبلناها جميعا بالأحضان والضحكات وجرجرناها من يدها فورا إلي طاولة السفرة لتري المفاجأة وهي بعد ساخنة ثم تحلقنا حول الديك الرومي وحكايات الغربة والسفر حتي مطلع الفجر. اليوم مازالت أمي تتذكر بحنان تلك الليلة وتقول إنها في حياتها لم تذق أشهي ولا أطعم من هذا الديك. آه يا أمي، ليتك كنت معي الآن في كندا!