عرفت الشخصية المصرية عبر تطورها التاريخي، ما يطلق عليه شيخنا «حامد عمار» نمط الشخصية «الفهلوية» والتي تكونت كمحصلة لتضافر الأبعاد التاريخية والاقتصادية، التي جعلت منها درعا واقيا لمواجهة ظروف الحياة التي عاني منها المصريون عبر التاريخ، وفي دراسته القيمة عن هذا النمط من الشخصية يعرض لنا شيخنا حامد عمار بعض سلوكياتها، والتي يأتي في مقدمتها: القدرة علي «التكيف السريع»، لمختلف المواقف والتصرف وفقًا لما تتطلبه هذه المواقف من سلوكيات واستجابات، ولم لا؟ والفهلوي هو الذي يستطيع أن يخالط «الجن الأحمر»، ويعيش في الوقت نفسه مع «الملائكة»، وأليس هو صاحب مقولة «احنا عفاريت الأسفلت»، و«اللي دَهَنّا الهوا دوكو»، وأليس هو الذي عشق عبدالحليم حافظ، مع التفاعل والغناء مع «عدوية» وهو الذي استوعب المعاني الصعبة للغة العربية من خلال «أم كلثوم»، مع تمايله وعشقه للأغاني الشعبية، وأخيرًا - وليس آخرًا - أليس هو الذي لايزال يستمع لأغاني الزمن الجميل، ويتمايل مع رقص «سعد الصغير». وهذا كله يكشف عن استعداده للتكيف مع الجديد، بل وسرعة الاستجابة له، حتي علي مستوي تعامله مع الديانات والثقافات الوافدة. وهذا التكيف وإن كان له جوانبه الإيجابية في بعض الأحيان من حيث سرعة التعامل مع المستجدات، والقابلية للهضم وتمثل الجديد إلا أن له جوانبه السلبية الخطيرة والتي تتمثل في المسايرة السطحية، والمجاملة العابرة، وإخفاء المشاعر الحقيقية من منطلق «أهو كلام» أو «فك مجالس» دون ارتباط حقيقي بهذه المواقف، وكيفية مواجهتها بما تتطلبه من آليات. القدرة علي إطلاق «النكتة» السريعة المواتية، وبالدرجة التي أصبحت «النكتة» من أهم خصائص النمط المصري، والتي لجأ إليها المصري كنوع من الترضية لذاته، فتريحه وتريح من يستمع إليها، كما أنها تعد تعويضًا لما يصيب الشعب من كبت سياسي واجتماعي، وتنفيسًا مما يعانيه من منغصات الحياة. وبالرغم مما قد يكون لإطلاق النكتة من إيجابيات، إلا أنها تحمل العديد من السلبيات تتمثل في الهروب من المشكلة، والانصراف عنها انصرافا يعفي الشخصية من التفكير الجدي في واقعه - ومن مظاهر الفهلوة أيضًا - المبالغة في تأكيد الذات، والإلحاح بالقول والفعل في إظهار القدرة الفائقة في التحكم في الأمور، وتظهر المبالغة في تأكيد الذات ابتداء من الأقوال الفخمة، بألفاظها التي لا تدل علي مضمون حقيقي، ومرورًا بحب «التريقة» علي الآخرين، والإقلال من نجاحاتهم، وأنه وحده الذي يفهم، ولا يعجبه شيء «لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب» وهو القادر علي الإتيان بكل شيء فارق» ولم لا؟ وهو يستطيع أن «يجيب السبع من ديله». وبعد تأكيد الذات من أهم مساوئ وسلبيات الشخصية الفهلوية، لأنه يكشف عن الحب المقيت للذات، ويعوق التفاعل مع الجماعة. ولا يقل عنها خطورة هو تغليب جانب «الوجدان» علي جانب «العقل» في التعامل مع الأشياء والحكم عليها، فهو يلعن «الملك فاروق» ويترحم علي أيامه، ويمجد عبدالناصر، ويلعنه في أي مناسبة، وهكذا تحول الوجدانات والمشاعر دون الحكم الموضوعي علي الأشياء. الميل للعمل الفردي والنفور من التعامل مع الجماعة كنوع من حب الذات والمصلحة الشخصية. محاولة الوصول للهدف بأقصر الطرق، وبأقل جهد ممكن. وغيرها من عشرات مظاهر الشخصية الفهلوية التي نجدها بشكل أو بآخر، وتكونت عبر العصور وبفعل الظروف التي عاشها المصري. أما الآن فنعيش زمن «ما بعد الفهلوة»، والتي من أهم خصائصه: البلطجة، والهبش، والفساد والإفساد، واستغلال كل الطرق - وفي معظمها غير مشروعة - لتحقيق المكاسب والمنافع الخاصة، و«كله» يضحك علي «كله» «واللي تغلبه ألعب به»، وسادت المظهرية والشكلية وتحول الإسلام إلي طقوس، ولا مانع من إطالة الذقون، ولبس الجلباب الأبيض، بل وسيولة «اللعاب» من الفم للدلالة علي الخشوع والبكاء في الدعاء، وفي الوقت نفسه لا بأس من استغلال الناس، والضحك عليهم، كما أنه لا بأس من صيام النهار، واللهو بالليل، بل ووجدنا البعض في الحوارات التليفزيونية، ممن هم ليسوا فوق مستوي الشبهات، بل ومن الراقصات، من تكثر من ذكر الله، وأنها قادمة من العمرة أو ذاهبة إليها، وبالدرجة التي تدفعنا للتساؤل الاستفزازي عن أي رب وعن أي عمرة يتحدث هؤلاء؟ وعلي جهة السياسة حدث ولا حرج عن مظاهر ما بعد الفهلوة حتي من يطلقون علي أنفسهم النخبة السياسية، ولا نعدم بعض النخب التي يقال: إنها مثقفة، أما عن الإعلام والدخلاء عليه فحدث ولا حرج؟ لكن - ومع كل هذا - فإننا نشير إلي أن كل هذه المظاهر وإن كانت الغالبة في هذا الزمن الرديء، إلا أنها لا تحول عن وجود نماذج مشرفة معطاءة، وأن هناك عشرات الصفات الإيجابية المستمدة من المقومات والثوابت الأصيلة للشخصية المصرية. كما أن معظم هذه الخصائص والصفات السلبية إنما هي نتاج ووليدة ظروف طارئة وليست من طبيعة الشخصية المصرية، وبالتالي علينا مواجهتها والتغلب عليها بتعميق الانتماء، ومن خلال مؤسسات بناء الإنسان، ومقاومة كل أنواع القهر والاستبداد، الفساد والإفساد: لأنه المصري معلم الدنيا، ومشيد أول حضارة في التاريخ الإنساني. وكفي هذا مبررًا.