عطلة نهاية أسبوع مشمسة.. نتبادل الخبر كأنه إشارة سرية ونعكف علي تصور إمكانات تلبية الإشارة بطرق وأساليب مختلفة ليس من بينها البقاء في البيت أو زيارة متحف أو الذهاب إلي السينما.. الشمس دعوة للخروج، في كل المواسم.. والخروج إلي الطبيعة في أشهر البرد، في الخريف المحتمل والشتاء والربيع القارصين، أمر لابد منه لتجديد الخلايا الميتة وتنشيط الدورة الدموية وملء الرئتين بالأكسجين النقي إلي آخر تلك الأسباب التي أسمعها بنصف أذن من أصحابي "الطبيعيين" وهم يستعدون بحماس لتسلق جبل أو التزحلق علي سطح بحيرة متجمدة ويشعرونني أني "غير طبيعية" بدليل ركوني للبيت وكسلي الدائم في العطلات. الخريف يرتبط بتغير أوراق الشجر من اللون الأخضر الداكن إلي درجات الأصفر والأحمر والبرتقالي.. والناس من محبي الطبيعة وهم كثيرون يروجون للخريف بنفس الطريقة كل عام، يطلقون علي النزهة في الجبال في ذلك الموسم نزهة "ألوان الخريف".. مضت سنوات طويلة علي الهجرة ولم تتح لي فرصة الخروج في نزهة خريف سوي الأسبوع الماضي.. دعاني إلي النزهة أصدقاء مصريون وأصروا علي أن أصحبهم حين عرفوا أنني لم أقم برحلة إلي الجبل منذ انتقلت إلي أوتاوا.. صديقتي التي تحدثت معي علي الهاتف قالت بحماس شديد مصدره بلا شك حالة الطقس في الويك إند: شمس وحرارة معتدلة ودرجة رطوبة منخفضة، الإشارة واضحة لا تقبل اللبس. أفكر لوهلة أن أرفض الدعوة، لكن صديقتي بإصرارها تشجعني علي الخروج من روتين العمل والبيت وقاعات السينما والمول.. تستخدم كلمة ذات حدين، تقول "النشاط مهم"، والحقيقة أني فائقة النشاط وعطلة نهاية الأسبوع هو الفرصة الوحيدة للتوقف عن النشاط والتفرغ للبحلقة في السقف.. ليس لدينا نفس التعريف لكلمة نشاط، وبالتالي لسنا صديقتين مقربتين.. أقبل الدعوة باستسلام وعقلي يعاندني ويقول إن النشاط الجديد الذي ينبغي أن أبذله هو النشاط المرتبط بالطبيعة الخارجية وليس بطبيعة روحي الميالة للوحدة ولا بطبيعة عملي القائم علي الإنجاز. طبيعة سخية ومتنوعة لكن روحي لا تهفو إليها كما تتوقع صاحبتي. كنت أفضل الذهاب إلي مقهي له تيراس خارجي نجلس فيه تحت الشمس ونتلهي بالفرجة علي المارين والأحاديث الرائقة.. أو التمشية وسط المدينة والفرجة علي الأسواق التي تقام في الشوارع وفي ساحات السيارات تحت الخيام.. لكن البعض يتلقي إشارة الشمس بشكل مختلف، يعتبرها فرصة أخيرة قبل موسم البرد والريح للنزهة الخلوية في الجبال أو في البساتين الكثيرة المحيطة بالمدينة أو حتي في قارب علي النهر. الرحلة الجبلية تستغرق ساعتين، نصف ساعة لكي نصل بالسيارة لقمة التل ونصف ساعة أخري للهبوط بالسيارة وساعة للنزهة علي الأقدام.. الطريق الصاعدة متعرجة كالمعتاد، والأسفلت ضيق تحفه الأشجار والصخور من الجانبين. يصيبني الدوار في الطريق، نتوقف لأبدل بمكاني في المقعد الخلفي مكانا بجوار السائق حيث تخف رجرجة السيارة قليلا وتصبح الرؤية أمامية وليست جانبية فالرؤية من الجانب في اعتقادي هي أحد الأسباب التي تجعلني أشعر بدوار البحر علي طريق الجبل.. نوقف السيارة في ساحة كبيرة عند قمة التل ونهبط منها نصف مرضي ونحن نتضاحك لنخفي رعشة خفية في الروح. في التل عدد من الساحات يسمونها "بلفيدير" لكل منها سور حجري كبير علي هيئة نصف دائرة يتوقف عنده الناس لالتقاط الصور وتأمل المشهد بعينين سارحتين وروح مأخوذة. كلما صعدنا كلما زاد المشهد قوة وجلالا.. صاحبتنا التي هي أيضاً صاحبة الدعوة ظلت مصرة علي الصعود، كلما وصلنا إلي ساحة تطلب من السائق ألا يتوقف عندها وأن يكمل الطريق.. كانت تعرف أن أعلي ساحة هي الأفضل وتقول إن المشهد هناك من وراء العقل. عندما هبطنا من السيارة كان في انتظارنا مشهد عريض وساحر فعلا، بانوراما هائلة من الألوان والظلال والخطوط المنسابة كانسياب النهر البعيد ومساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وبيوت تتلاصق مثل حبات العنب في عنقود تفصلها عن النهر غابات صغيرة وأحراش وبحيرة. تستقبلنا الطبيعة الخائنة بحنان ودفء تحسد عليهما لكننا تحسبا للغدر نرتدي معطفا خفيفا وجوارب من القطن السميك.. سلم حجري يهبط بنا إلي شرفة أخري من شرفات التل، وينتهي في جانب منه بطريق صغيرة ملتوية تدخلنا إلي قلب الأحراش. الطريق معبدة بالأحجار وسيقان الأشجار وألواح من الخشب تسمح من حين لآخر بتسهيل مهمة المشي.. ندخل إلي جوف التل مثلنا مثل غيرنا، خط واحد ممتد، نتبع شابين وفتاتين يتعاملان مع النزهة بجدية تثير الإعجاب، يختفيان عن أنظارنا بسرعة وهما يتقدمان حثيثا إلي الأمام. في الطريق نلتقي بناس كثيرين، أسر مع أولاد، شباب وعجائز، فتاة وشاب في العشرين انتخبا لنفسيهما مكانا خفيا في التل يتبادلان فيه القبلات، امرأة وحيدة تحمل حقيبة ظهر ثقيلة أتخيل أن بها أدوات تسلق ودليلا لمسالك التل.. معظم الناس فيما عدا الأطفال يحافظون علي هدوئهم كأن نزهة الجبل فرصة لحديث هامس أو للمسة يد حانية أو لتأمل ألوان الخريف والتقاط الأحجار الغريبة وجمع الزهور البرية، أما نحن، فلم نكف عن الضحك والصياح والشكوي من صعوبة السير في تلك الطرق صعودا وهبوطا والتأكيد علي أننا لن نتبع صديقتنا ثانية مهما حدث ونراها تتقدمنا وتنتظرنا وتضحك من تخاذلنا وتقول إننا عجائز وإننا لا نصلح للهايكنج.. ساعة قضيناها في التل لم نقطع أكثر من كيلومتر واحد وعندما خرجنا أخيراً من الأحراش إلي الطريق الأسفلتية كنا منهكين ومنتعشين وجوعانين وصديقتي تلمس خدي بيدها وتقول أنظري كم تورد خدك، وتضحك من برودة يدها ومن برودة خدي.. وفي لمحة بصر نكون في السيارة وفي لمحة بصر أخري يختفي النهر والساحة المطلة عليه وتتلوي الطريق بين الأشجار هابطة بنا صوب المدينة.