إذا ضاقت الأنفاس، وصار من الصعب أن تجد بعض الأكسجين لتستنشقه، ووجدت أنفك عوضا عنه روائح غير محببة.. وإذا سخنت الأدمغة واحمرت العيون في أجواء تسودها الأتربة ولا تأتي فيها الرياح إلا بالرمال وسقوط اللوحات الإعلانية علي السيارات.. وإذا تعذر إيجاد برد صناعي عن طريق مكيفات الهواء، إما بسبب ضيق ذات اليد، أو انقطاع التيار الكهربائي.. إذا كانت هذه هي الأحوال فلا شك أن المواطنين جميعا لا يسعهم إلا طلب (شوية برد).. تبني حضارات الشعوب المتقدمة في العصر الحالي علي وجود البرد.. وقد أثبت الواقع تقدم البلدان التي تتميز أجواؤها بانخفاض درجات الحرارة في معظم شهور السنة.. والعكس صحيح.. إذ يتسبب ارتفاع درجات الحرارة في إصابة السكان بالخمول وميلهم إلي الكسل وتعطل أدمغتهم التي تصهرها سخونة الجو، فيقل الإنتاج، وينعدم الابتكار.. بل يركن الناس إلي الثبات الحسي والمعنوي.. ولا تختلف حياتنا كثيرا عن هذا الواقع ففي الشتاء نشعر بالنشاط والرغبة في الحركة للحصول علي الدفء، وفي الصيف نحسب خطواتنا بكميات الماء التي نفقدها كلما تحركنا.. وكلما زاد الحر وطالت فترته دخلت بلادنا في نطاق البلاد الحارة وتحولنا إلي الكسل والخمول.. علي عكس برد الشتاء الذي نفتقده والذي كان يلسع أنوفنا فتتنبه عقولنا وتنفتح عيوننا ويسري النشاط في أجسادنا.. ولقد استطاعت بعض شعوب البلدان الحارة بما أوتيت من موارد اقتصادية أن تقلب أجواءها علي الأقل داخل المباني إلي أجواء باردة تساعد علي تنشيط عقول مواطنيها.. فالمدارس والجامعات مكيفة، والبيوت والسيارات أيضا.. جميع أماكن الأعمال المختلفة وكل وسائل المواصلات تسري فيها درجات حرارة معتدلة ناتجة عن مكيفات الهواء لمقاومة قسوة الطبيعة.. أما عندنا فكل عام تزيد حرارة الأجواء جميعا علي العام الذي يسبقه.. وكأننا صرنا البلد الأول في إثبات نظريات تغير المناخ العالمي.. وكأن الظروف اتحدت مع الأجواء لتزيدها سخونة وترفع من درجات الحرارة أكثر فأكثر.. فالأسعار نار.. وبداية العام الدراسي بمستلزماته بعد ولوج شهر رمضان وعيد الفطر بمستلزماته زاد من شعور المواطنين بالحرارة.. هذا بالإضافة إلي ازدحام وتكدس الناس في كل مكان.. وتعذر استخدام الملابس القطنية المناسبة لهذا الحر.. وانتشار أكوام القمامة التي تتفاقم روائحها في الصيف.. وانقراض الوعي بالنظافة العامة والشخصية والحجج المغلوطة بضيق ذات اليد.. كل هذا تمت ترجمته إلي استطالة الصيف في مقابل قصر الشتاء.. وبالتالي ولأننا قد وصلنا إلي شهر أكتوبر ومازلنا في عز الصيف.. ولأننا لا نستطيع تبريد الأجواء صناعيا.. ولا القضاء علي بعض أسباب ازدياد الشعور بالحر.. ولا نستطيع القيام بأعمالنا ولا حتي بنصف كفاءة في هذه الأجواء.. ولأن السخونة قد وصلت إلي مرحلة خطيرة جعلت شركاء الوطن الواحد ينقسمون.. لأجل كل ما سبق، لم يعد أمام المواطنين البسطاء، إلا التوجه للسماء، والتمسك بالدعاء، حتي يحل الشتاء، ببعض الأجواء الباردة، ولا مانع من بعض الأمطار المطهرة، لعل (شوية برد) تتمكن من إعادة العقول إلي رشدها..