أعزف اليوم علي نوتة (الأهرام الاقتصادي)، فقد صدر عددها الأخير متضمناً ملفا مشحونا حول «الصحافة القومية» في ذكري تأميم الصحافة بعد نصف قرن من هذا القرار التاريخي الذي صدر في مايو 1960 .. لقد كتب زميلي وصديقي أنور الهواري رئيس التحرير في صدارة الملف افتتاحية تستوجب أن نطل علي ما تطرحه بعمق.. فهو يقول استناداً إلي خبرته كرئيس تحرير سابق لجريدة خاصة ورئيس تحرير سابق لجريدة حزبية ورئيس تحرير حالي لمطبوعة قومية: إن الصحافة القومية تقف الآن علي مشارف أفق بعيد.. لأن الدولة تقود مشروعاً إصلاحياً وتعلن أجندة وطنية تستوجب دوراً للصحافة القومية. ولو كنت قد ولدت حين تأممت الصحافة، ولو كنت صاحب رأي وقتها، لرفضت التأميم.. لا أحد يقبل التأميم انطلاقاً من المبدأ العام.. ولا أحد يمكن أن يقبل أبداً تأميم الصحف.. وقد درسنا الجدل الذي دار حول هذا وقتها في كلية الإعلام.. لكن هذا القرار المرفوض أسس لمجموعة ضخمة من الإصدارات، تلك هي التي تقوم عليها الصحافة القومية.. التي لا شك أتفق مع (الأهرام الاقتصادي) والهواري في أنها أحد أهم حصون الدولة والمجتمع لا الحكومة. لا بد أن عدداً من تلك الصحف كان سوف يختفي لولا التأميم.. قياساً علي اختفاء جريدة مثل «المقطم» وجريدة مثل «المصري».. بل إن الاحتضان الرسمي للصحافة هو الذي ساهم في تراكم مؤسسيتها.. وحماها من الأنواء.. ما أدي فيما بعد إلي صدور عديد من العناوين الأخري.. خصوصاً في المؤسستين الأكبر: الأهرام والأخبار.. ومن بعدهما دار التحرير.. تلك الصحف التي كانت هي الحضانات الراعية لكفاءات أسست وأصدرت الصحافة الحزبية والصحافة الخاصة.. نعم الصحافة القومية هي التي أنتجت الصحافة الخاصة.. وحتي لو كانت الصحافة الخاصة تتطاول علي الصحافة القومية فإن هذا نوع من (دبدبة) الساعين لإثبات الوجود وإعلان الميلاد.. أهلاً بكم في الحياة التي تعتركها مؤسساتنا منذ قرن ونصف. الصحافة القومية، التي تتعرض لحملة شرسة، أندهش جداً من الصمت شبه الجماعي في التعامل معها، حتي من بعض الزملاء المستهدفين شخصياً ومؤسسياً، تمثل ضرورة وطنية.. ولا أعتقد أن مصر بدونها كان يمكنها أن تعبر الحراك السياسي الذي انفتح علي مصراعيه في عام 2005 ، بل إن الساحة كانت سوف تصبح ميداناً للاختلال والارتباك.. والرأي العام كان سيصبح أسيراً لأجندات الله أعلم بمن كتب بنودها.. ومصالح تدهس الأهداف المجتمعية.. وتخبُّط يؤدي لا شك إلي كوارث. كونها (ضرورة)، لا ينفي ما هو مطلوب من (التطوير) بالضرور.. كونها لم تزل تمسك بأجندة المجتمع وتصد عنه (رياح السموم) لا يعني أن عليها أن تبقي قيد حالتها وبنيانها ومنطقها وقواعدها.. البلد الذي نعكس أوضاعه يتغير.. ولا بد أن علينا بدورنا أن نتغير. إن الخمسين عاما الماضية شهدت مراحل مختلفة في تاريخ الصحافة المصرية، وعمادها الصحافة القومية.. وبغض النظر عن السنوات العشر التالية لقرار التأميم وقادها جيل من الصحفيين رسَّخ القرار.. فإن الجيل الذي قاد هذه الصحافة في السبعينيات نقلها نوعيا وسياسيا مع انتقال الدولة إلي أفق الانفتاح الاقتصادي والتحول عن سياسات الاشتراكية.. وفي الثمانينيات، وإذا كان الأهرام قد سبق إلي تطور مؤسسي قبل ذلك، فإن المؤسسات لحق بها تطور بنائي ونوعي ذهب إلي أفق أبعد في التسعينيات.. مع جيل امتد بقاؤه في قياداتها نحو ربع قرن.. أنجز وكانت له إيجابيات عظيمة لا تنفي السلبيات.. وتلك طبيعة البشر، والصحافة كما يعرف الجميع نشاط إنساني. الجيل الحالي مطالب بأن يؤدي دوره.. عليه أن يضع بصمته، ربما تقيد في البداية بارتباكات الانتقالات.. ربما تقيد حينا بالمتغيرات السياسية والنوعية المحيطة بمناخ الصحافة.. ربما تقيد بعدم إدراك طبيعة المنافسة التي يواجهها.. ربما اعتقد بعضنا أن بيته بعيد عن الحريق إلي أن طالته النيران في لحظة.. ربما تقيد بعضنا بمواقف مالية تراكمت بسبب الاندفاع المؤسسي في التسعينيات.. ربما تقيد بعضنا بركود حراك الأجيال في الصحف لسنوات.. ربما تقيد بعضنا بكبرياء في غير موضعه.. كل هذا لا ينفي أنه قد حان موعد التطوير من منطلق الضرورة والوجوب. لقد أثبتنا، كل علي قدر ما قدم واجتهد، وفي ظل أن المؤسسات صار عليها أن تخلق لنفسها غطاءها الاقتصادي، وأيضا مرجعياتها السياسية التي تنتمي كلها للدولة، أثبتنا أن هذه المؤسسات هي حائط الصد الذي منع المجتمع من انفراط رأيه العام.. وكمثال بسيط للغاية فإن الصحافة القومية لم تُقدم لحظة علي أن تعبث بنيران الفتنة الطائفية التي ألقت بظلالها علي المجتمع في الأيام الأخيرة.. وهي كانت الوحيدة التي تجلَّت منابرها لاحتواء الاندلاع المتوقع للنيران.. ناهيك عن موقفها إبان حرب غزة.. ما أثبت ويثبت مجدداً دورها الوطني.. وهو دور لا تمليه التعليمات ولا يصدر به توجيه كما قد يردد (المدبدبون).. وإنما تفرضه النشأة والضمير والمسئولية. حين أتصفح مجموعة الصحف القومية في أي صباح يمكنني أن أسجل (مهنياً)، فضلا عن سياسيا، وبما في ذلك في «روزاليوسف»، ما يكاد يملأ عشر صفحات فلوسكاب من الخطايا والأخطاء.. لكن القارئ يجد في تلك الصحف خطابا واضحا غير مأجور.. وتعبيراً عن حركة المجتمع.. وهي حركة لا يمكن اختصارها في أنشطة صاخبة لبضع مئات من النشطاء والمحظورين.. إذ إن (القومية) هي صحافة ال80 مليوناً.. كلهم لا بعضهم.. كما تجد فيها صورة الدولة التي تدير حياة الناس وتغيب كاملة في الصحافة الخاصة.. وتجد فيها الحقائق التي تتعلق بملفات الأمن القومي المصري.. وحتي إذا تأخرت في متابعة الظواهر المستحدثة فإنها حين تتداخل يكون لها القول الفصل. إن للأهرام وقارها ورصانتها، وللأخبار قيمتها، وللجمهورية وجاهتها، ول«روزاليوسف» اختلافها ومدرستها، وللمسائي الآن تحوله، ولبقية الإصدارات إسهاماتها التي تصب في اتجاه يخدم الرأي العام.. ويعمل عنده.. لا يوظفه لصالح رجل أعمال أو صراع خفي علي مصالح غامضة.. وها هي (الأهرام الاقتصادي) تفتح ملفا جوهرياً وحيويا تناقش به كيف يمكن أن تقوم الصحافة القومية علي متغيرات فرضها التغيير وكيف سوف تسهم فيه. ذات مرة كتبت 24 مقالاً متتاليا في صدر الصفحة الأولي ل«روزاليوسف» حول الخلفيات التي تنتمي لها أصابع الصحافة الخاصة، وحول النوايا التي تنطوي علي مضمون مؤسف وأسلوب مخطئ ويتعمد أن يكون مؤلبا وانقلابيا، وفي مرات سابقة كتبت عن الواجب علينا في الصحافة القومية.. وأجدني الآن في هذه اللحظة.. بملابساتها وبمناسبة هذا الملف واجب التحية الذي أصدرته (الأهرام الاقتصادي) مدفوعاً لأن أطرح علي المجتمع وعلي الصحافة القومية باعتبارها من بنائه وأحد أعمدته.. ما لا بد أن يكون في تفكيرنا واستراتيجيتنا في السنوات المقبلة.. لقد وجب علي هذا الجيل أن يقود تحولاً آخر في مسيرة الصحافة القومية.. الضرورة. ونكمل غداً. www.abkamal.net [email protected]