في روايته الأخيرة "ليلة سفر" أفسح الروائي محمد ناجي مساحة تاريخية واسعة، امتدت من أربعينيات القرن الماضي إلي الآن، عكس أعماله السابقة التي سيطر عليها خيال جامح واهتمام بالذاكرة الشعبية، وانكمشت فيها مساحة التاريخ والسياسة في خلفية النص، وهو ما جعل هذه الرواية مثيرة لإشكاليات فنية وفكرية في عالم محمد ناجي، الذي أصدر من قبل "خافية قمر" و"لحن الصباح" و"مقامات عربية" و"العايقة بنت الزين" و"رجل أبله.. امرأة تافهة" و"الأفندي"، عن "ليلة سفر" ورأيه في حال الرواية العربية دار معه هذا الحوار : لم اخترت عنوان "ليلة سفر" لروايتك الأخيرة رغم أنها لم تركز علي موضوع السفر بقدر ما ركزت علي ذكريات الجد؟ - الإبحار في الذاكرة هو أيضا نوع من السفر، وإذا كان الحفيد علي سافر إلي خارج مصر؛ فإن "عبد القوي" و"كوكب" أمضيا ليلة سفر في الذاكرة، وأظن أنها الأهم، وهي التي أعطت الرواية اسمها. اهتممت في الرواية بوقائع التاريخ المصري بدرجة لم تظهر في أعمالك السابقة، ما سبب ذلك؟ - كل رواية تفرض عالمها حسب شخصياتها وموضوعها، وما يناسب رواية لا يصلح لرواية أخري، وعموما فأنا كروائي لا أحب أن أكرر نفسي، أو أن أظل أسيرا لأسلوب نجح في رواية سابقة، كل رواية عندي هي مغامرة جديدة تصنع آلياتها حسب طبيعة شخصياتها. في "ليلة سفر" كنت معنيا أساسا بحياة بشر، وأدرك أن هذه الحياة تشكلت علي أرضية تاريخية وسياسية واجتماعية، ولابد أن ألامس تلك الأرضية حتي لا يتحول أبطالي إلي شخصيات كرتونية معلقة في الفراغ، وحتي لا تتحول المعاني التي أطرقها إلي مجرد تمارين ذهنية، لكنني لست مؤرخا ولا كاتبا سياسيا لأستفيض في تلك الأحداث. ما السبب وراء التحول من الاهتمام بالخيال، إلي المزج بين الخيال والواقع؟ - كل رواية تفرض أسلوبها الخاص، وعموما فالكتابة بالنسبة لي لعبة خيال، والخيال الإبداعي كما أقصده هو عملية عقلية في الأساس، عملية لا تغطي علي الواقع ولا تموهه كما يتصور البعض، وإنما تزيده وضوحا وانكشافا عبر آليات ماكرة مراوغة. هل معني ذلك أنه لا توجد قواعد عامة تلتزم بها في الكتابة؟ - الكاتب يستنبط قواعده مما يكتب، بمعني أنه لا يدخل إلي الكتابة بقواعد أعدها في ذهنه سلفا، وإنما هو يستكشف نفسه في كل عمل من خلال عملية الكتابة نفسها، لا يبتدع نصا فقط، وإنما يبتدع نفسه أيضا، الكتابة الإبداعية ليست فكرة تكتب، ولكنها تفاعل مع الذات والعالم وابتداع لهما، وقد تكون هذه هي قيمتها بالنسبة للكاتب. لماذا تركت نهاية "ليلة سفر" مفتوحة، من خلال انقطاع المكالمة التليفونية بين الجد وحفيده في المطار قبل سفره؟ - ربما كان ذلك تعبيرا عن انقطاع التواصل بين جيلين، جيل لم تساعده الذاكرة علي الوصول إلي حل، وجيل يقفز إلي مجهول لا يقدم حلا. دائما ما تستدعي التراث الشعبي في أعمالك، ما تعليقك؟ - أنا ابن الشعب واكتب لهم، ويهمني أن أتعرف علي الآليات والحيل التي عبروا بها عن أنفسهم، لأتمكن من الوصول إليهم، فهدف أي كاتب في النهاية هو أن يقرأه الناس، وقد أحب أن أقرأ ما يكتبه النقاد عما يسمي "موت المؤلف"، لكنني لا أحب أن أسمع أحدا يتحدث عن "موت القارئ". في التراث الشعبي بأغانيه وحكاياته وسيره المطولة، تعرف كيف عبر الناس عن أنفسهم وعما حولهم بصراحة ماكرة، وكيف خزنوا بروق أحلامهم السرية، وكيف تكتموا مواجعهم. ما رأيك في حال الرواية العربية؟ - بخير، وهناك كتاب وروايات كثيرة لافتة للنظر، لكن يصعب علي أن أحدثك عن واقع الرواية العربية بصورة متكاملة وافية، فالكتاب العربي بلا جناحين يرفرف بهما عبر الحدود، والمخفي والمكبوت والمسكوت عنه داخل كل بلد أكبر كثيرا من المعروف. الصعوبة تنبع من أن هناك أسماء محجوبة، وهناك أسماء تقرأ عنها ولا تقرأ لها. لكن يمكننا أن نلاحظ بشكل عام أن الرواية أكثر فنون الكتابة تفاعلا مع الناس، وهناك باستمرار روايات تثير ضجة، صحيح أن هذه الضجة تكون أحيانا لأسباب لا أدبية، لكن الظاهرة إيجابية علي كل حال، وتؤكد لنا حرص الروائيين علي إثارة القضايا الي تهم المجتمع. كيف تري مستقبل الرواية؟ - مستقبل الرواية العربية ليس رهنا بعطاء كتاب الرواية وحدهم لكنه مرهون بالمناخ العام. فالمشهد الإبداعي جزء من مشهد عام يضم كل الأنساق ابتداء من السياسي والاقتصادي والاجتماعي مروراً بالثقافي، هذا المناخ العام قد يكون حاضناً للإبداع وقد يكون معادياً له وبالتالي فقد يفتح الآفاق وقد يسدها أمام الرواية وغيرها من الفنون. بدأت شاعرا ثم انتقلت إلي الرواية، ولاحظ النقاد أنك أثريت الكتابة الروائية بلغة شعرية، لدرجة أن علاء الديب أطلق عليك لقب "شاعر الرواية العربية".. ما قولك؟ - علاء الديب كاتب كبير ومتذوق نادر للآداب والفنون، وأنا أعتز بملاحظته بل وأعتبرها وساما علي صدري، وقد بدأتُ مسيرتي فعلا بكتابة الشعر، ثم تحولت إلي الرواية، وربما كان تركيزي علي الرواية راجع إلي إحساسي بأنها أنسب أشكال الكتابة للتعبير عما يشغلني من قضايا، فنحن نعيش أحداثا درامية هي أقرب للمأساة أو الملهاة يناسبها الإيقاع الدرامي أكثر مما تناسبها الغنائية الشعرية. نحن نعيش فترة مليئة بالبلبلة والفوضي، فوضي أفكار ومشاعر، وسقوط غايات كبري، وضبابية في الإحساس بالمستقبل. فالحسّ الغنائي مفقود، وهذا ما قلّل اندفاعة الشعر عندي، وجعل من النصوص الرّوائية الأقرب إلي في التعبير. في الكتابات الجديدة تجارب في اللغة والأشكال، كيف تراها؟ - كل كتابة تنطوي علي مغامرة تستحق الانتباه، لأن أحد مبررات الكتابة هو الخروج عن المألوف والسائد، وفي الكتابة الجديدة تلاوين كثيرة تستحق الثناء، صحيح أن هناك تجارب لم تحقق حتي الآن انجازا ابداعيا مكتملا، لكنها لا تزال في بداية الطريق، ولابد أن تجد فرصتها في القراءة والنقد المتأني. ما رأيك في اتهام الجيل الجديد بالابتعاد عن القضايا المصيرية، والإغراق في الموضوعات الشخصية؟ - لا يستطيع جيل أن يفرض علي جيل آخر الطريقة التي يجب أن يفكر ويكتب بها، الجيل الحالي يكتب عن واقعه كما يحسه هو، ومن واقع تجاربه هو، جيلي مثلا حارب وحلم واشتبك مع الواقع، الجيل الجديد محروم حتي من الحلم وغير مدعو للمشاركة في أي شيء وعلي أي مستوي، وشرائح كبيرة منه مطرودة إلي هامش البطالة والجنس والمخدرات، في جيلي كانت الثقافة تدير معارك السياسة والمعرفة، الآن يديرها الإعلام، كتابة الجيل الذي تشير إليه هي صرخات احتجاج، لا تفتعل الأحلام ولا تدعي النبوة، وهذا حقه. ما جديدك؟ - انتهيت من كتابة رواية بعنوان "قيس ونيللي"، وأعكف علي كتابة نص بعنوان "يوميات الغياب"، أسجل فيه تأملاتي في فترة المرض التي أمر بها.