الأجندة برنامج كندي يومي ذائع الصيت، سبق أن كتبت عنه مقالا منذ عدة أشهر يتناول التطورات التي طرأت علي موقف يهود أمريكا من مناصرة إسرائيل، خصص حلقة الخميس الماضي لسؤال هام بمناسبة مرور أربعين عاما علي وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. البرنامج يقدمه ستيف بيكين، وقد تم نقل حلقة "ناصر" من مبني معهد مونك لشئون العولمة التابع لجامعة تورونتو. ضيوف الحلقة أربعة أساتذة من نفس الجامعة: جانيس شتاين أستاذة العلوم السياسية ورئيسة المعهد، ديريك بنسلار أستاذ التاريخ اليهودي، جينس هانسن أستاذ تاريخ الشرق الأوسط والبحر المتوسط، ومحمد فاضل أستاذ القانون والشريعة الإسلامية بجامعة تورونتو. كان عنوان الحلقة وسؤالها الرئيسي صادمين إلي حد ما بالنسبة لي، نظراً لأن مصر لا تحتل بأي شكل من الأشكال مركز الصدارة في الإعلام الكندي، وتخصيص حلقة كاملة من حلقات هذا البرنامج الشهير للحديث عن الرئيس عبد الناصر في ذكري وفاته الأربعين ليس متوقعاً ولا يجتذب بالضرورة انتباه الجماهير العريضة. فضلا عن ذلك، الحلقة عنوانها: ما بعد ناصر، والسؤال الرئيسي الموجه للضيوف: هل مصر بحاجة لناصر جديد؟ استمرت الحلقة ساعة كاملة، وشارك فيها الجمهور بعدد من الأسئلة، كما شارك المتفرجون من البيوت بالكتابة في مدونة البرنامج للتعليق علي مداخلات الضيوف وتصحيح بعض الأخطاء (مثلا بخصوص تاريخ مولد الرئيس عبد الناصر وعمره عند الوفاة حيث أخطأت جانيس شتاين حين قالت إنه مات عن ستين عاما). البرنامج شديد الجاذبية لأسباب كثيرة، أولها أنه يجيد طرح الأسئلة وتلخيص التاريخ بشكل تربوي. دار الحديث مثلا عن أزمة الديمقراطية في العهد الناصري والعجز عن تكوين مؤسسات قوية بعيدا عن المركزية الحكومية في القاهرة والأسكندرية وعن تصوير الغرب وخاصة أمريكا للزعيم الراحل باعتباره ديكتاتورا وتشبيهه بهتلر تارة وبستالين تارة أخري وهو ما جعل جانيس شتاين تختتم البرنامج بالرد علي سؤال: هل مصر بحاجة لناصر جديد؟ بالنفي القاطع باعتبار أن مصر من وجهة نظرها بحاجة للديمقراطية. محمد فاضل حاول في عدد من المداخلات علي مدار الحلقة التذكير بإنجازات العصر الناصري، من تنفيذ مشروعات الإصلاح الزراعي إلي تطوير التعليم والتصنيع والدعوة للوحدة العربية، وأشار عدة مرات إلي شعبية الزعيم الطاغية في مقابل رفض الشعوب المصرية والعربية لكثير من سياسات وممارسات الرئيس السادات رغم محاولته تطبيق الديمقراطية وتأسيسه لمبدأ تعدد الأحزاب. توحي آراء محمد فاضل بأن مبدأ الديمقراطية الذي يعلق عليه الغرب آمال التغيير في المنطقة (أو يبرر به تدخله المستمر اقتصاديا وعسكريا في الشئون العربية) لم يكن أهم ما تسعي إليه الجماهير في مصر في عهد عبد الناصر، وإنما الهدف القومي الموحد، وشجاعة المواجهة السياسية والديبلوماسية مع القوي العظمي، بريطانيا وفرنسا واسرائيل في أزمة السويس. تدخل ديريك بنسلار ليوضح أن دور عبد الناصر في أزمة السويس لم يكن دورا حيويا، فعندما قررت بريطانيا وفرنسا حماية مصالحهما في قناة السويس انتصر عليهما عبد الناصر انتصارا ديبلوماسيا لكنه فشل في المواجهة العسكرية مع اسرائيل وخرج من هذه المواجهة مهزوما. غني عن الذكر أن بنسلار هو واحد من أشهر مؤرخي الصهيونية العالمية ومن أكثر المتحمسين لإنجازاتها في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهو أيضا واحد ممن استغلوا كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق للتأكيد علي أن الغرب اضطهد اليهود باعتبارهم "شرقيين" مثلهم مثل المسلمين والهنود وشعوب شرق آسيا. ويعترف بنسلار في مقدمة كتابه "الاستشراق واليهود" أن إدوارد سعيد كان محقا في اعتبار انتقاد الكثيرين لكتابه عن الاستشراق مناسبة للدفاع عن الصهيونية ومساندة اسرائيل والهجوم علي القومية الفلسطينية ويضيف أن نقاد الصهيونية من جانبهم يعتبرونها شكلا من أشكال الاستشراق المعادي للعرب. عندما سئل الضيف الرابع جينس هانسن عن دور عبد الناصر في تأصيل الهوية الإسلامية المصرية أجاب أن عبد الناصر كان معنيا بتأكيد الهوية العربية قبل كل شيء وأشار إلي أنه كان معاديا لحركة الإخوان المسلمين وأن الرئيس السادات هو المسئول عن استشراء الأصولية الدينية في المجتمع المصري. مقدم البرنامج ستيف بيكين يطرح الأسئلة بهدف المعرفة ولا يدعي أنه أعلم من ضيوفه كما هو حال المذيعين السياسيين في القنوات العربية علي تنوعها. لذلك يكرر الأسئلة بتنويعات مختلفة أملا في الحصول علي المعلومات كاملة من ضيوفه والتعرف علي مواقفهم وتأويلاتهم ومساعدة الجمهور علي تكوين صورة واقعية عن موضوع الحلقة دون تدخل مباشر من جانبه. تدخلت جانيس شتاين قرب نهاية الحلقة للتعليق علي موقف الحكومة الحالية من الانتخابات الرئاسية مشيرة إلي أن النظام العسكري لم يفلح في تأسيس دولة قوية وأن أمل الجماهير في مصر معقود علي تغيير الحكم العسكري الذي استمر منذ العهد الناصري إلي الآن لكن أحدا لا يستطيع أن يتكهن بنتائج الانتخابات خاصة وأن مصر من وجهة نظرها لم تزل دولة قوية وغنية رغم الفوارق الهائلة بين الطبقات. وانتهز مقدم البرنامج الفرصة لدعوة الجمهور لمطالعة بعض الأرقام والاحصائيات الخاصة بمتوسط دخل الفرد في مصر وزيادة هذا المتوسط المطردة في السنوات العشر الأخيرة. استمع مقدم البرنامج لواحدة من الجمهور وهي تتهم اسرائيل بالتمييز العنصري ولواحد من الضيوف ينتقد الرئيس السادات رغم شعبيته في الغرب باعتباره صانع السلام، وتساءل عن مدي صحة التصور الغربي عن عبد الناصر وعن مدي احتياج مصر لقائد وزعيم شعبي ينهض بها ويعيد لها دورها الحيوي في المنطقة. الجديد في الأمر هو أن تصدر هذه التساؤلات من برنامج تليفزيوني بشعبية "الأجندة"، وأن يتابعه الكنديون بشغف أقرب لشغف الأوروبيين الذين تربطنا بهم علاقات تاريخية قديمة. أما ما تعودناه فهو أن يتحدث الصهيونيون واليهود عن العرب علي شاشات التليفزيون وأن يمثل الضيف العربي أقلية بارزة في برنامج عن تاريخ العرب.