من يفكر في النفس البشرية لابد وأن يصاب بالحيرة .. ولابد أن يصيبه شيء من التردد في الحديث عنها، أو في تعميم الأحكام بشأنها.. فهي لغز صعب علي العارفين حل طلاسمه، وهي متاهة يعجز أولو الألباب عن الوصول لغاياتها.. ولا عجب كذلك إن أقسم بها المولي عز وجل في كتابه الحكيم "ونفس وما سواها" دلالة علي عظم شأنها، وعلي تعقد تكوينها.. وقد أشار ابن سينا إلي أن النفس البشرية هي "لغز الألغاز" وأنها مثل الحمامة التي تهبط علي شيء ثم تطير فلا تكاد تعرف شيئاً عنها "هبطت إليك من المحل الأرفع.. ورقاء ذات تعزز وتمنع... محجوبة عن كل مقلة عارف... وهي التي سفرت ولم تتبرقع ".. ورأي أحمد شوقي أنها معضلة أعيت الأنبياء والرسل "مَا بَالُ أَحْمَدَ عَي عَنْكِ بَيانُهُ بَلْ مَا لِعِيسَي لَمْ يقُلْ أَوْ يدَّعِ... وَلِسَانُ مُوسَي انْحَلَّ إِلاَّ عُقْدَةٌ مِنْ جَانِبَيكِ عِلاَجُهَا لَمْ ينْجَعِ". ويشير المفسرون والعارفون إلي أن الله قد خلق النفس في الابتداء سوية مستقيمة علي الفطرة القويمة لا اعوجاج فيها.. ثم ألهمها بعد ذلك "فجورها وتقواها" وتلك هي "فطرة الله التي فطر الناس عليها".. وكما قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم - : "كل مولود يولد علي الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟.. وفي الحديث القدسي، يقول المولي سبحانه وتعالي "إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم". والغريب أن الناس بجهلهم يفسدون كل ما هو مستقيم.. ويدنسون بطباعهم كل ما هو طاهر ونقي.. ولذلك حق للمولي أن يقدم الفجور كصفة للنفس البشرية علي التقوي "وقليل من عبادي الشكور".. النفس البشرية يخلقها المولي سبحانه نقية ومنضبطة، تماماً في الحالة التي تشتري عليها جهازا إلكترونياً دقيقاً أو لاب توب.. في البداية يكون دقيقاً ومنضبطاً "ضبط المصنع"، ثم سرعان بالاستعمال ما يصاب بالفيروسات والأعطال.. وخوفاً من هذه الفيروسات الدخيلة علي النفس البشرية ، كان الرسول الكريم يدعو ربه قائلاً "اللهم، آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم، إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، وعلم لا ينفع ، ودعوة لا يستجاب لها".. وكان كلما قرأ الآية الكريمة"ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها" يكرر هذا الدعاء.. فاللهم استجب.