رغم أن الكثيرين يرددون أن التحول السلمي نحو الديموقراطية يحتاج إلي متغيرات كثيرة في بنية النظام السياسي، وبنية البشر المواطنين، إلا أنهم سريعًا ما يتجاهلون ذلك أو ينسونه بالمرة. وإذا كنا وبأكثر مما كنا في العهود السابقة، لم نعد نقدر أن نتنحي تمامًا ونهائيًا عن الاهتمام بالشأن العام المصري ومتابعة ما يجري علي لسان الفضائيات الخاصة والعامة وما تكتبه ما تسمي بجرائد المعارضة والمستقلة، فقد كنا ولا زلنا مجرد قليلي الذكاء! واستطاعت حفنة يعرفهم كل قارئ وكل مشاهد عاقل، أن يخلقوا حولنا ثقافة مفرغة. تنتج «مثقفين» غير مثقفين. يغرقون مجتمعنا وناسنا في السطحية، يغروننا بالانغلاق علي الأحوال السيئة، بينما يحشون هم جيوبهم كل يوم بممارستهم التضليل السياسي والديني بمزيد من الأموال تحسبا للأيام الصعبة التي يتهددون بها مصر والمصريين! إنها الحقيقة العارية التي سنكتشفها بعد سنوات التيه والضياع في بحر هؤلاء. إذا نجوا ليتمتعوا بمكاسب تجارتهم في آلامنا، فلن تكون سوي بدايات الفوضي الخلاّقة! بأسرع مما نتوقع سنعبر فوضي البداية، وظهرت علي القنوات المصرية «برامج التوك شو» كأحد أهم الظواهر اللافتة في عالم الإعلام المرئي خلال العشرة أعوام الماضية. ورغما عنها وبعيدًا عن الأهداف الخاصة والعامة، تقوم هذه البرامج بتحطيم حالة الجمود بين المشاهد والإعلام وتأخذ في تذويب جبل الجليد بين المشاهدين والتليفزيون. وبالضرورة، يتفاعل المرئي مع المكتوب، وتظهر مساحات زمنية لجرائد بعينها علي الشاشات، وفي المقابل تتصدي الصحافة المكتوبة للقضايا التي تتناولها هذه البرامج في ممالأة أو نقد أو هجوم أو تفاعل حقيقي يساهم بشكل مباشر وأساسي في زيادة شهرة هذه البرامج علي نطاق واسع. وحيث لا يمكن مقاومة التليفزيون وشبكة الإنترنت وهي تفرض نفسها كأسرع وسائل إعلامية في التواصل بالصوت والصورة، تجتذب هذه الوسائل نسبة مشاهدة عالية جدًا كما تؤكد كل استطلاعات الرأي التي أجريت في هذا الشأن. إذ يكون الأمر كذلك، فمعرفتنا الحقيقية سوف تبدأ في نفس اللحظة التي نتخلي فيها عن سذاجتنا، نحاول أن نستشف النظام الخفي المضمر في هذه العشوائية الظاهرة. نهرب من الغرق في بحر إبراهيم عيسي خصوصًا بعد أن ارتدي الجلباب وأخذ في البحث في عبقرية أبي بكر وعمر من جديد، نهرب ونملّ من وائل الإبراشي وخضم البحث عن الحقيقة في أحداث عارضة، من مني الشاذلي ومعتز الدمرداش ومحمود سعد ومجدي الجلاد.. وقد جمع عمرو الليثي بعضا منهم، في برنامج رمضاني لمزيد من التسلي بشهرتهم والتطفل علي أحوالهم في الحب والزواج والثقة بالنفس وتحقيق الذات في رفع ضغط وسكر المصريين ببرامج ومناقشات لا تفسر شيئًا كبيرًا بالبكاء علي أحوال مصر. حتي لحظتنا هذه ينتج هامش الحرية ليبرالية لا يقبلها العقل، ركيزتها اللعب علي المشاعر الدينية لأغلبية الفقراء أو علي مشاكلهم الاجتماعية والمعيشية. والنتيجة في هذا الطوفان من الإثارة والدهش والتهريج التي بدت واضحة في مسلسلاتنا لهذا العام. والأمر ليس مؤامرة دبرها النظام تحدد معالم السياسة والمجتمع وتربطها بالخيوط السرية التي تحرك الأراجوز، يقول ما يحلو له، يعتصم ويتظاهر ويضرب ويجري وراء جمع التوقيعات.. حتي لمن يقبل مثل هذا التحليل، فالانغمار ليس مطلقا، والإغراق لا يلغي قانون الطفو بل يدعمه! وعلي عاتق الفكر العقلاني في هذا البلد أن ينجو بالمصريين من التجهيل والتعمية والتعجيز «مفيش فايدة»! نبحث في الشواش، في أمور شديدة التناقض، الشكوي من الفقر، وفي نفس الوقت انتشار السيارات السيراتو ذات المائة ألف جنيه وقد أصبحت السيارة الشعبية الأولي في مصر بدلاً من الفيات بأرقامها 128 و127 الهاتشباك. والموبايلات علي آذان كل المصريين، يدردشون بالمليارات، وجوقة الإعلان تحتشد بالنجوم تغني «الدنيا فيها أكتر»! وقد عاش البشر آلاف السنين يلاحظون أن أسبابًا صغيرة يمكنها أن تحدث نتائج كبيرة غير متوقعة والأمر يلازم الطبيعة كما يلازم المعرفة. أطرح في نهاية هذه العجالة فكرة أن العلاقة الخطية بين الشعب والحكومة، التي عشناها في عهد عبدالناصر، والتي لايزال البعض يهفو إليها كما يهفو آخرون إلي عهد أبي بكر وعمر، قد انتهت. لتبدأ مرحلة استطلاعية وتجريبية وتدريبية جديدة، هي بلا شك مرحلة انتقالية في خلق وعي سياسي وثقافي وحقوقي لدي المواطن العادي، بعد سنوات طويلة من الاستبداد والانكماش والاستضعاف.