تعد كتب جابر بن حيان ذات تأثير كبير، حيث اعتبرت أول المؤلفات في المعارف التي نقلت إلي أوروبا، مثل نظرية تحضير المعادن من عنصري الزئبق والكبريت، ووصفه لتحضير الحوامض المعدنية. وظلت هذه الكتب نصوصا كيميائية لأجيال عديدة. كما أن تأثير جابر بن حيان ظهر واضحا علي أوروبا في القرون الوسطي حتي القرن الثامن عشر الميلادي، عندما ظهر لافوازيه وغيره من علماء الكيمياء في الغرب، ولم يقف جابر عند الآراء النظرية فقط كما فعلت الأمم القديمة، وإنما دخل المختبر وأجري التجارب وربط الملاحظات علي أسس علمية، وهي الأسس التي بني عليها العلم الحديث منجزاته في هذا الميدان وفي غيره من الميادين العلمية الأخري. درس جابر بن حيان ما خلفه الأقدمون، غير أنه خالف النظريات القديمة بمنهجه العلمي الجديد. بشر جابر بن حيان بالمنهج التجريبي، حيث تصدرت التجربة منهجه العلمي، وجعل التجارب العلمية شرطا أساسيا للعالم الحق. مولده وموته: ( 103 - 200ه ، 721 - 815 م) جابر بن حيان بن عبد الله الكوفي، أبو موسي، كان يعرف بالصوفي، من أهل الكوفة، فيلسوف كيميائي. وفي خبر مكان ولادته وتاريخ مولده اختلاف فهنالك ما يسوغ الظن بأنه فارسي ولد في طوس من بلاد خراسان، وفي الفهرست: وقد قيل إن أصله من خراسان، والرازي يقول في كتبه المؤلفة في الصنعة (أي الكيمياء): قال جابر بن حيان. وهناك رواية ثانية تقول إنه من طرطوس، وثالثة تجعله صابئا من حران كما ورد في كتاب "تاريخ الفكر العربي" لإسماعيل مظهر، ثم هنالك رواية رابعة يرويها "ليو الإفريقي" الذي أرخ سنة 1526م لرجال الكيمياء في إفريقية، يقول: "إن كبيرهم هو جابر الذي هو يوناني اعتنق الإسلام وكانت حياته بعد زمن النبي صلي الله عليه وسلم بقرن من الزمان". جابر وعلم الكيمياء: يعتبر جابر كيميائي العرب الأول، فهو أول من أشهر علم الكيمياء عنه، وهو أول من يستحق لقب الكيموي من المسلمين. والظاهر أنه قد أصاب من علو المكانة وعظم الثراء وبعد الصيت ما جعله موضع التقدير حينا، وموضع الحسد والاضطهاد حينا آخر. فأما التقدير فهو الذي أحاط اسمه بهالة من الجلال، حتي لتجد من يصفه منهم تارة بأنه "ملك العرب" وتارة بأنه "ملك العجم" وأخري "ملك الهند" . وقال عنه "رسل" الذي ترجم كتبه إلي الإنجليزية إنه أشهر علماء العرب وفلاسفتهم. وقال القفطي عنه: "كان متقدما في العلوم الطبيعية بارعا منها في صناعة الكيمياء، وله فيها تآليف كثيرة ومصنفات مشهورة". كما يشير الرازي في كتبه الخاصة بعلم الكيمياء إليه بقوله: "قال أستاذنا أبو موسي جابر بن حيان". ومع ذلك فقد لقي جابر من الاضطهاد والحسد ما يلقاه كثيرون ممن ينبه ذكرهم في كل مكان وزمان. ولقد ترك جابر بن حيان عددا كبيرا من الكتب والرسائل معظمها ينسب إليه، يقول بعضها ما لا يقوله في بعضها الآخر أحيانا، وأحيانا أخري يلخص في بعضها ما قد بسطه في بعضها الآخر. يقول الجلدكي في نهاية الطلب: "إن من عادة كل حيكم أن يفرق العلم كله في كتبه كلها، ويجعل له من بعض كتبه خواص يشير إليها بالتقدمة علي بقية الكتب لما اختصوا به من زيادة العلم، كما خص جابر من جميع كتبه المسمي بالخمسمائة". الملاحظة عند جابر بن حيان: كان جابر بن حيان علي رأس المثبتين لعلم الكيمياء بالقول والفعل معا، وكان أول من اشتهر عنه هذا العلم. فهو يتساءل في عجب: كيف يظن العجز بالعلم دون الوصول إلي الطبيعة وأسرارها؟ ألم يكن في مستطاع العلم أن يجاوز الطبيعة إلي ما ورائها؟ فهل يعجز عن استخراج كوامن الطبيعة ما قد تثبت قدرته علي استخراج السر ما هو مستور وراء حجبها؟ ويقول مستدركا: "إننا لا نطالب من لا علم له بالتصدي للكيمياء، بل نطلب ذلك من ذوي العلم الذين استوفوا أركان البحث". إن أسرار الطبيعة قد تمتنع علي الناس لأحد سببين، فإما أن يكون ذلك لشدة خفائها وعسر الكشف عنها، وإما أن تكون للطافة تلك الأسرار بحيث يتعذر الإمساك بها، وسواء أكان الأمر هو هذا أو ذلك، كان في وسع الباحث العلمي أن يلتمس طريقا إلي تحقيق بغيته، فلا صعوبة الموضوع ولا لطافته ودقته مما يجوز أن تجول العلماء دون السير في شوط البحث إلي غايته. منهجه التجريبي: كان لجابر بن حيان منهج تجريبي يصطنعه في بحوثه الكيمياوية، فهو حريص علي أن يقصر نفسه علي مشاهداته التي تجيء التجربة مؤيدة لها، إذ قد تكون الظاهرة المشاهدة حدثا عابرا لا يدل علي إطراد في الطبيعة، فلنسمعه يقول في رسم خطته العلمية: "يجب أن تعلم أنا نذكر في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه أو قيل لنا وقرأناه بعد أن امتحناه وجربناه، فما صح أوردناه وما بطل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضا وقايسناه علي أقوال هؤلاء القوم". وهو يجيز لنفسه قبول النتائج العلمية التي ينقلها إليه الآخرون، فهو يقول مثلا: وما لم يبلغنا ولا رأيناه فإنا في ذلك في عذر مبسوط". وهكذا نجد أن للعلم المحقق المقبول عنده مصدرين: فإما الرؤية بحاسته، وإما رؤية الآخرين كما تبلغه، ولا شك أنه يضمر شرطا لهذا الذي يبلغه عن الآخرين، وهو أن يكون هؤلاء الآخرون من الثقات المركون إلي أمانتهم العلمية.