العلاقة بين الحداثة والتراث علاقة دياليكتيكية، تسير في الاتجاهين دون اصطدام، وأثبت التاريخ البحثي في كل المجالات أنه في شتي فروع المعرفة، لا غني للقديم عن جديده، ولا وجود للجديد بدون القديم، لكن لوحظ في الفترة الأخيرة تراجع ملحوظ في النشاط البحثي لتحقيق التراث، مما فتح الباب أمام العديد من الأسئلة حول: هل هذا التراجع يرجع إلي صعوبة هذا المجال علي الدارسين والباحثين، أم ضعف المردود المادي وانحسار الشهرة عن المحققين، هو السبب الحقيقي وراءه.. هذا ما حاولنا الإجابة عليه من خلال هذا التحقيق: الدكتور الطاهر مكي، أستاذ الأدب والنقد بجامعة القاهرة، يري أن تحقيق التراث له أهميته القصوي في حفظ الهوية الحضارية للأمة، ومواجهة التحديات الكبري التي تفرض علينا العودة إلي الذات، التي لا تتحقق إلا من خلال التراث، لمقاومة عوامل التذويب والتشويه، حتي تتضح في النهاية الملامح المميزة لهذه الأمة، ولولا جهود العلماء المسلمين الأوائل في عصر التدوين، لضاع هذا التراث الزاخر الذي وصل إلينا، ويوضح خطوات تحقيق المخطوطة قائلا: يبدأ الباحث تحقيق العنوان، ثم تحقيق اسم المؤلف ونسبة الكتاب للمؤلف، ويسبق هذا جمع النسخ المخطوطة للكتاب من مظانها، مستعينا بفهارس المكتبات والدوريات المتخصصة والكتب المعنية بالتراث جمعا، وتحقيقها وتصنيفها. الدكتور حسين نصار يؤكد أن هناك بالفعل، إحجاما كبيرا من الباحثين عن العمل في مجال تحقيق التراث، لضعف المردود المادي، وانحسار أضواء الشهرة والإعلام عن المحققين رغم صعوبة ما يقومون به، بخلاف الجيل السابق قبلي كان لديهم إخلاص في التحقيق من أجل العلم فقط، أما اليوم لو توافر شرط الإخلاص في الباحث، فإنه يفتقد إلي الجمهور الذي يشجعه ويقدر جهوده كما في الماضي، كما أن مجال التحقيق صعب يحتاج إعدادا خاصا، كما أن قانون الجامعة لا يعترف بتحقيق المخطوطات في سلم الترقية، ولذلك مردوده عند الناس غير معترف به إلي جانب الجهد والوقت، الذي يبذله المحقق في التحقيق، ولو بذله في التأليف لاستغرق مجهودا أقل، وينال شهرة أكبر. وعن الشروط الواجب توافرها في المحقق قال: لابد أن يكون الباحث علي معرفة كاملة بالموضوع الذي يحقق فيه الكتاب، وأن يعرف اللغة العربية معرفة تامة، ويكون لديه ثقافة موسوعية في كافة المجالات، كما ينبغي عليه أن يقدم الشك قبل اليقين في موضوع البحث، ولا يطمئن إلي النتيجة التي وصل إليها إلا بعد الرجوع إلي المعاجم المختصة، للتحقق من الصواب. الدكتور يوسف زيدان، مدير مركز المخطوطات والتراث بمكتبة الإسكندرية، قال: حدث انقطاع بين الأجيال في مسألة تحقيق التراث، فمنذ بدأت أعمال نشر التراث القديم في مصر، وظهور أجيال كبيرة من كبار المحققين، انقطع هذا التيار لأسباب عديدة لا مجال هنا للخوض فيها، لكنها بشكل عام تتعلق بنظام التعليم الذي انهار تدريجيا منذ الستينيات، بالإضافة إلي أسباب أخري كثيرة منها: ندرة الفهارس، وصعوبة الحصول علي المخطوطات المراد تحقيقها، وعدم حماس الناشرين للكتب التراثية المحققة (باستثناء الكتب الدينية)، والإهمال الثقافي العام للأبعاد التراثية لثقافتنا. واستطرد قائلا: لكني أظن أن الحال سيكون أفضل في السنوات القادمة، نظرا لما نقوم به في مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، من دعم كبير للباحثين والمحققين، وهو ما تقوم به اليوم ايضا عدة جهات في مصر والبلاد العربية، لتذليل الصعوبات التي كانت تصرف الناس والباحثين عن العمل التراثي. الدكتور فيصل بدير عون أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة عين شمس يقول: لقد حققت تسعة كتب في التراث، ولكن للأسف الإعلام لا يعرف عني شيئا ويفسر إحجام الباحثين عن تحقيق التراث لصعوبة التراث نفسه، فالنص القديم عصي علي الفهم، ويحتاج إلي إعداد لغوي خاص واصطلاحي أيضا، ولابد للمحقق أن يكون ملما بالخط العربي القديم، فالكثير من المحققين لا يستطيعون التعامل مع اللغة القديمة المليئة بالتصحيف، حيث الحروف تكتب بدون نقط أو تشكيل أو إعراب، فالكلمة الواحدة تحتمل أربع قراءات مختلفة، كما أن دور النشر تحجم عن نشر مثل هذا اللون من التراث الفكري، والمفروض أن تتصدي لهذه المهمة المؤسسات الكبري مثل: دار الكتب ودار المعارف، ناهيك عن أن تحقيق التراث مهنة غير مربحة علي الإطلاق، كما أن طلاب الماجستير والدكتوراه ليس لديهم فكرة عن التراث القديم وكيفية التعامل مع المصادر الأصلية. وعن أهمية التراث في عصر العولمة يقول: أن إهمالنا للتراث يشبه الأب الذي طعن في السن فتخلي عنه ابنه، وللأسف الشديد، نجد شيكسبير يبعث في الغرب من جديد، والكنفوشيوسية والبوذية تبعثان من جديد في الصين واليابان، وهي دول متقدمة علميا وتفوقنا عشرات المرات، ومع ذلك يستأنسوا ويسترشدون بتراثهم، باعتباره عنوانا لهويتهم، ولحسن الحظ فإن تراثنا الإسلامي يحمل قيما إنسانية وحضارية تصلح لكل العصور تتعلق بالخير والشر ونظام الحكم والحقوق والواجبات والبعد الميتافيزيقي الذي لا نستطيع تجاهله. الدكتور محمود فهمي حجازي رئيس جامعة كازاخستان يقول: للأسف حقوق المحققين غير محفوظة، فمن الممكن بعد عدة سنوات يأتي شخص، ويضيف ويحذف كما يشاء ويغير قليلا، وينشر العمل دون الحفاظ علي حقوق الملكية الفكرية للمحقق الأول، كما أنه يجب أن نختار التراث المناسب لقيام الطلاب بتحقيقه، أما بالنسبة للباحثين فكل شيء قابل للتحقيق.