يشاهد الجمهور في رمضان مسلسل «شيخ العرب همام» الذي يقوم ببطولته النجم «يحيي الفخراني»، وهو العمل التليفزيوني الأول الذي يخصص لشخصية «شيخ العرب الأمير همام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همام بن أبو صبيح سيبيه» الرجل الذي حكم أقاليم الصعيد، ومد سلطته علي ولاية جرجا التي كانت تشمل كل الاقاليم من المنيا إلي أسوان، وكان ذلك في سنوات حكم «علي بك الكبير»، والمعروف أن شخصية همام التي تعرف أيضا بهمام الفرشوطي لم تظهر من قبل في مسلسل تليفزيوني إلا في مشاهد قليلة جدا في مسلسل «مارد الجبل» الذي اخرجه نور الدمرداش في السبعينيات من القرن العشرين. أحب كثيرًا أن أحدثكم عن هذه الشخصية التي اشعلت خيالي في سنوات الطفولة والصبا حيث عشت لسنوات في مدينة فرشوط، وكان أبي رحمه الله يردد صباح مساء موالا شهيرًا يقول: هياك يا باب هياك بس ضبتك غيروها تسعين أوضه وشباك في تلايلك كسروها واكتشفت بعد سنوات أن هذه الأبيات قيلت في رثاء قصر الأمير همام في فرشوط الذي اقتحمه محمد بك أبو الدهب ورجاله من أتباع علي بك الكبير بعد انهيار سلطة همام الفرشوطي وذهابه جنوبا إلي اسنا، ثم موته مكمودًا مقهورًا في بلدة تدعي «قمولة» تابعة لمركز قوص، وقرأت أيضا ابياتا أخري موجعة لهذا الموال الذي يرثي ويؤرخ لفترة حكم هذه الشخصية القوية للصعيد فيقول: قوم يا همّام واسعي وروح ستَّار وازرع وقوِّت عيالك «فرشوط» قادت عليك نار والبيه عدّي وجالك لكن أجمل وأعظم ما كتب عن هذه الشخصية التي يلعبها «يحيي الفخراني» جاء في الجزء الأول من تاريخ «عبدالرحمن الجبرتي» المسمّي «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، والذي يرسم بورتريها رائعًا للرجل ولعصره ولبدايته ولنهايته، وربما يكون من المناسب قبل أن أنقل لكم عبارات المؤرخ العظيم عن «همّام» أن أقدم موجزًا سريعًا لحياة «شيخ العرب» الذي ولد في عام 1709 ميلادية الموافق 1121 هجرية، وتوفي في السابع من ديسمبر عام 1769 ميلادية، الثامن من شعبان 1183 كان أكبر الأبناء الذكور لوالده الشيخ «يوسف» زعيم قبائل هوّارة التي استقرت في صعيد مصر، في العام 1760 انتهي تنازع المماليك إلي سيطرة «علي بك الكبير» علي منصب «شيخ البلد» واستطاع أن يكون جيشًا مكونًا من 6 آلاف مملوك، وتغلب علي منافسيه الآخرين مثل «عبدالرحمن كتخدا» و«صالح بك شاهين»، ولكنه لم يستطع أن يسيطر علي الصعيد الذي كان يدين بالخضوع لشيخ العرب همّام. من المنيا إلي أسوان منذ العام 1181 هجرية، ونجح شيخ العرب في تكوين قوة عسكرية من الهوارة والمماليك، وخاض صراعًا مع «محمد بك أبو الدهب» رجل علي بك الكبير حتي ذلك الوقت، ولكن «همام» نجح في أن يعترف له المماليك بحكم الصعيد حتي حدود «برديس» ظل الصراع مستمرًا خاصة بعد استيلاء المماليك الذين يدعمهم «همام» علي «أسيوط» فأرسل علي بك الكبير ثلاثة جيوش استعادتها عام 1183، واستمر الزحف جنوباً للقضاء التام علي «همام» حيث تمت استمالة ابن عمه «إسماعيل أبو عبد الله»، وبسبب ذلك ترك شيخ العرب «فرشوط»، واتجه إلي «اسنا»، ثم مات مقهوراً لانتهاء ملكه، واقتحم أبو الدهب فرشوط وقام بنهبها ولكن «علي بك الكبير» اختار «درويش» الابن الأكبر لهمام ليكون حكاماً لفرشوط، إلا أن الابن «سامر» استخدم سلطانه فتم خلعه، ومات مثل الأشخاص العاديين في القاهرة. لاشك أننا أمام تراجيديا إنسانية وشخصية غير عادية يقول عنها «عبد الرحمن الجبرتي مسجلاً وفاته عام 1183 هجرية: ومات الجناب الأجل والكهف الأظل الجليل المعظم والملاذ المفخم الأصيل الملكي ملجأ الفقراء والأمراء ومحط رحال الفضلاء والكبراء شيخ العرب الأمير شرف الدولة همام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همام بن صبيح بن سيبيه الهواري عظيم بلاد الصعيد، ومن كان خيره وبره يعم القريب والبعيد، وقد جمع فيه من الكمال ما ليس فيه لغيره مثال، تنزل بحرم سعادته قوافل الأسفار، وتلقي عنده عصي التسيار وأخباره غنية عن البيان، مسطرة في صحف الأمكان، منها إنه إذا نزل بساحته الوفود والضيفان تلقاهم الخدم، وأنزلوهم في أماكن معدة لأمثالهم، وأحضروا لهم الاحتياجات واللوازم من السكر وشمع العسل والأواني وغير ذلك من مرتب الأطعمة في الغداء والعشاء والفطور في الصباح والمربيات والحلوي مدة إقامتهم لمن يعرف ولمن لا يعرف، فإن أقاموا علي ذلك شهوراً لا يختل نظامهم، ولا ينقص راتبهم، وإلا قضوا اشغالهم علي اتم مرادهم، وزادهم إكراماً وانصرفوا شاكرين، وإن كان الوافد ممن يرتجي البر والإحسان أكرمه وأعطاه، وبلغه اضعاف ما يترجاه، ومن الناس من كان يذهب إليه في كل سنة ويرجع لكفاية عامه، وهذا شأنه في كل من كان من الناس، وأما إذا كان الوافد عليه من أهل الفضائل أو ذوي البيوت قابله بمزيد من الاحترام، وحياه بجزيل الأنعام، وكان ينعم بالجواري والعبيد والسكر والغلال والتمر والعسل، وإذا ورد عليه إنسان ورآه مرة وغاب سنين ثم نظره وخاطبه عرفه وتذكره ولا ينساه، وحاله فيما ذكر من الضيفان والوافدين والمسترفدين أمر مستمر علي الدوام لا ينقطع أبداً، وكان الفراشون والخدم يهيئون أمر الفطور من طلوع الفجر فلا يغرفون من ذلك إلا ضحوة النهار، ثم يشرعون في أمر الغداء من الضحوة الكبري إلي قريب العصر، ثم يبدأون في أمر العشاء فلا يفرغون من ذلك إلا بعد العشاء وهكذا». وعنده من الجواري والسراري والمماليك والعبيد شيء كثير، ويطلب في كل سنة دفتر الأرقاء، ويسأل عن مقدار من مات منهم فإن وجده خمسمائة أو أربعمائة استبشر وانشرح وإن وجده ثلثمائة أو أقل أو نحو ذلك اغتم وانقبض خاطره، ورأي أنها ربما كانت في أعظم من ذلك وكان له برسم زراعة قصب السكر وشركه فقط اثنا عشر ألف ثور، وهذا بخلاف المعد للحرث ودراس الغلال وحواصل السكر والتمر بأنواعه والعجوة فشيء لا يعد ولا يحد، وكان الإنسان الغريب إذا رأي شون الغلال من البعد ظنها مزارع مرتفعة لطول مكث الغلال وكثرتها، فينزل عليها ماء المطر، ويختلط بالتراب فتنبت وتصير خضراء كأنها مزرعة». ويضيف «الجبرتي»: «وكانت له صلات وإغداقات وغلال يرسلها للعلماء وأرباب المظاهر بمصر في كل سنة، وكان ظلا ظليلا بأرض مصر، ولما ارتحل لزيارته شيخنا السيد محمد مرتضي، وعرف فضله أكرمه إكراما كثيرا، وأنعم عليه بغلال وسكر وجوارٍ وعبيد، وكذلك كان فعله مع أمثاله من أهل العلم والمزايا، ولم يزل هذا شأنه حتي ظهر أمر علي بك، وحصل ما تقدم شرحه من وقائعه مع خشاشينه، وذهابه إلي الصعيد، وصلحه مع صالح بك وانضمامه إليه، وكان المترجم صديقا لصالح بك وعشيرته، فأمدهما بالمال والرجال مراعاة لسعي صالح بك حتي تم لهما الأمر، وغدر «علي بك» بصالح بك، وخرجت رجاله وأتباعه إلي الصعيد، وأعلموه بما أوقعه بهم «علي بك»، فاغتنم علي فقد «صالح بك» غما شديدا، وحمله ذلك علي أن أشار عليهم بذهابهم إلي أسيوط وتملكهم إياها فإنها باب الصعيد، فذهبوا إليها مع جملة من المنافي من مصر والمطرودين كما تقدم، وأمدهم شيخ العرب المترجم حتي ملكوها وأخرجوا من كان بها، واستوحش منه «علي بك» بسبب ذلك، وتابع إرسال التجاريد.. ورغم هزيمة «همام» إلا أنه ظل صفحة فريدة في تاريخ الصعيد وفي حياة مصر المحروسة.