كان رنين التليفون واضحاً في أذنيه علي الرغم من صوت مياه الدوش المنسابة علي رأسه مصحوبةً بفحيح خفيف لشبكة المواسير في حوارها اللطيف القائم مع سخَّان الغاز علي استجابات من الشد والجذب المُدهشة الناعمة بين دفق المياه وتأجج عيون السخَّان بنار صافية زرقاء. شعر بالسرور والرضا عن انتظامه في تغيير جِلْدة السخَّان وتشحيمه كل ستة أشهر. أسرع في وضع فوطة علي رأسه. وهو لا يعرف إذا كان رنين التليفون في بدايته أم في نهايته، وإذا كان مُقدراً له الوصول عبر الطرقة الطويلة الفاصلة بين الحمَّام وصالة الشقة حيث يقبع التليفون في ركن منها. كان علي العموم من الضعفاء أمام رنين التليفون، أي أنه يصعب عليه سماع رنين التليفون دون رد منه، أو علي الأقل دون الذهاب إلي التليفون ومعرفة، إذا أمكن هذا، هوية صاحب الاتصال، لكنّ هوسه القديم المُتمثِّل في وضع التليفون في غرفة عمله أو بجوار سريره، ذهب إلي غير رجعة، بسبب تقدمه في العمر، وتقلص تلقيه تليفونات من أصدقاء أو أهل أو غرباء، إلي جانب خفوت لذة الحديث التي انزاحتْ شيئاً فشيئاً إلي عمله، وعمله للمفارقة هو حديث مع الآخرين، لكنه حديث صامت مُتخيل، يحدث علي الأوراق فقط. وإذا كانت لذة الحديث مع آخر من لحم ودم، تُمثِّل له في الماضي حياةً واقعية، فإن لذة الحديث علي الأوراق تُمثِّل له الآن نفس اللذة، مع فارق بسيط، هو الفرق بين أن تري السماء الحقيقية، وتضيع أمام اتساعها ومداها، وبين أن تراها في التليفزيون، محدودة بحدود الكادر، مكتومة بين الجدران الأربعة. ومع هذا هو من الوقاحة وبرود الدم حتي يكتب عن خبرات سابقة بسماء حقيقية، لكنها خبرات ضامرة، تصرخ بفقر التجربة. لا بد أن غروب الروح يوافق قطن السماء الدامي. قالت له صديقة يوماً، وهي واحدة من قلائل صمدوا معه في رحلة سقوط العلاقات الإنسانية التي بدأتْ معه منذ دخوله حقبة الأربعينيات من عمره، وربما هي صاحبة الاتصال، وإن كان الوقت مبكراً علي اتصال منها: الكارثة أنكَ تري الفرق بسيطاً بين سماء حقيقية وأخري محبوسة داخل إطار. ولكي تخفف حدة انتقادها الذي تراه دائماً انتقاداً حاداً، لا سيما عندما يكون مُراقَباً من جانبه بابتسامة صامتة، قالتْ: الحقيقة أننا أيضاً في حياة المدينة الحديثة الخانقة لا نري السماء فوق بحر أو السماء فوق صحراء أو السماء فوق غابة، لكنْ أن تصل بكَ استعاراتكَ الوقحة المقمِّلة إلي قول: لا بد أن غروب الروح يوافق قطن السماء الدامي.. هذا كثير يا صاحبي. جاء صوتها دون مقدمات، وأعلمته بخبر الوفاة. كانت تعرف أن حاجتها له ستأتي بعد إجراءات التأبين التي لا يستطيع المُشارَكة فيها. سأل منذ متي كي يطمئن قلبه. قالت: منذ أسبوع. وعدها بالمرور عليها في المساء. قالت: الآن. وضع سمَّاعة التليفون، وعاد ثانيةً إلي الحمَّام ليكمل شيئاً لا يعرفه. كان لا يحب أن يتلقي أخبار الموت علي التليفون. كان يتوقع السوء دائماً، وعلي وجه الخصوص عندما يأتي التليفون في ساعة مبكرة أو ساعة مُتأخرة. ضبط نفسه غير منزعج من خبر الموت. هل كان زوجها يقف حائلاً بينهما؟ لا.. وعلي الرغم من أن الصداقة بينهما لم تأخذ شكل العلاقة، إلا أنها كانت صداقة تحمل تجاوزات كثيرة. والغريب أن الزوج لم يكن حائلاً بمعني فعلي، إلا أن مجرد وجوده، واستمتاعه بحديث الصديقين، كان عبئاً عليهما، وإذا لم يكن معهما كان علي الأقل يعرف أين هما، وبشكل ما يصله حديث مُفصَّل عن اللقاء بينهما، إما عن طريق زوجته، أو عن طريق صديقها الذي هو صديقه أيضاً. التجاوزات كان الزوج يحدس بها دون دليل ملموس بين يديه. وضع يده علي جرس الباب، وعلي عكس انتظارها الطويل أمام استجابته لرنين التليفون، فتحتْ الباب سريعاً، واحتضنته، وهي تغلق الباب. ثم انخرطتْ في بكاء هيستيري. أحس بجسمها علي صدره. كان بارداً أمام الهيستريا، لكنّ هذا لم يكن مزعجاً لها. أعدتْ له قهوة، وجلسا علي مائدة صغيرة في المطبخ يتحدثان ساعتين زمانيتين وفي الساعة الثالثة كان حديثها عن استعاراته الوقحة المقمِّلة، وأنها ستعطيه الفرصة لرؤية السماء والبحر. كانت تشعر بالخجل من رغبتها في الاستجمام بعد وفاة زوجها بأسبوع واحد. قالت: هناك علي الأقل تستطيع أن تعاين بشكل حقيقي غروب الروح الذي يوافق قطن السماء الدامي.