يستلهم الكاتب «محمد حلمي هلال» في مسلسله الرمضاني «اختفاء سعيد مهران» الذي يلعب بطولته «هشام سليم» وأخرجه «سعيد حامد» اسم أحد أشهر أبطال «نجيب محفوظ» وهو محور روايته المهمة «اللص والكلاب» الاستلهام لا يستهدف التقليد ولكن الاستناد إلي نموذج روائي أصبح رمزًا للبحث عن العدالة، ولكنه بحث ينتهي إلي طريق مسدود، وليست هذه هي المرة الأولي التي يستلهم فيها كاتب أو مؤلف أو حتي فيلم من الأفلام اسم أحد أبطال «محفوظ» الذين أصبحوا جزءًا في الذاكرة المصرية، والذين أصبحوا أكثر حياة من الشخصيات الحقيقية، في فترة مبكرة جدًا، استلهم الكاتب الكبير «يوسف الشاروني» شخصية «زيطة» القادمة من رائعة «زقاق المدق» في قصة قصيرة تحمل اسم «زيطة صانع العاهات» واستلهم الروائي «إبراهيم فرغلي» عالم «أولاد حارتنا» في روايته «أبناء الجبلاوي» بل إنك إذا شاهدت فيلما بعيدًا عن عالم «نجيب محفوظ» هو «دائرة الانتقام».. أول أفلام «سمير سيف»، لاكتشفت أن الفيلم أطلق علي بعض أبطاله شخصيات محورية في «القاهرةالجديدة» مثل «إحسان شحاتة» و«علي طه» وبالطبع لا ننسي «سي السيد» الذي أصبح يطلق علي أي رجل متزمت ورجعي يقهر أسرته وزوجته في أي عمل درامي! ولكن «سعيد مهران» تحديدًا يُذكرني بدراسة نشرتها منذ خمس سنوات تقريبًا أعدت فيها تفصيلات وحياة الشخصية الحقيقية التي استلهم منها «محفوظ» حكاية «اللص والكلاب» وبطلها، وأعني بذلك مَنْ أطلقت عليه صحف تلك السنوات «السفاح محمود أمين سليمان» الذي صرعته الشرطة في أبريل من عام 1960، الشاعر «أحمد فؤاد نجم» كانت له شهادة مهمة عن هذا الرجل سجَّلها في مذكراته «الفاجومي» - الجزء الأول، حيث التقاه صدفة في جلسخانة محكمة عابدين، كان «محمود أمين سليمان» مجرد لصّ متهم في أكثر من قضية، وفي العنبر حكي ل«نجم» حكايته «من طقطق لسلاموعليكو». هو مثل أي شاب ضاقت به سُبل العيش في الصعيد فانتقل إلي الإسكندرية، وهناك تعرف علي معلّم هجّام علّمه أصول السرقة، سافر بعد ذلك إلي «بيروت» وعاش فيها سبع سنوات، وعاد منها ومعه مبلغ كبير مكَّنه من أن يشتري شقة في الإسكندرية ثم تزوج من امرأة تدعي «نوال عبدالعظيم»، ومع ذلك فقد ظلّ لصًا. كان لا يسرق إلاّ الشقق التي يسبقه إليها ناضورجي كالشغالة أو البّواب أو المكوجي أو السباك، وكان يسرق الأشياء الغالية كالتحف والمجوهرات.. ومن أشهر عملياته في تلك الفترة سرقة «بالطو أم كلثوم» من سيارتها أمام مسرح حديقة الأزبكية، وقدّرت الصحف البالطو المسروق وقتها بثلاثين ألف جنيه! شقيق زوجته، واسمه «محمد» كان يعمل مرشدًا للبوليس مما أثار غضب «سليمان» الذي طرده من منزله ذات يوم.. غضب شقيق الزوجة لكرامته فأبلغ عن زوج أخته فقبض عليه ليرحل إلي عنبر (ب) حيث التقي ب«نجم».. وأضيفت للصّ قضاياه السابقة ليصل عددها بما فيها قضية بالطو أم كلثوم إلي ثلاثين قضية! خلال نظر قضاياه أمام النيابة، بدأت تراوده الشكوك في وجود علاقة بين زوجته ومحاميه الذي كان غير متحمِّس للإفراج عنه، ويومًا بعد يوم تحول الشك إلي يقين، فقرر الهرب من السجن للانتقام، وذات ليلة، نقل أمين سليمان إلي المستشفي بعد أن زعم أنه بلع «بشلة» في حين أنه لم يبلع سوي ورقة سجائر مفضضة لتظهر في الأشعة كجسم غريب.. نقلوه علي الفور إلي قصر العيني ومن هناك هرب من عسكري الحراسة ليبدأ - بعد ذلك رحلة الانتقام، ويتوالي سقوط القتلي ليحمل «سليمان» لقب السفاح. في يوم التاسع من أبريل، ظهر ما يؤكد صحة معلومات سابقة أفادت بأن السفاح ظهر في سيارة النقل السريع للسكة الحديد، فقد أكد الخفير النظامي «عبد العظيم دياب» أنه التقي وجهاً لوجه مع السفاح، وتبادل معه حديثاً طويلاً كان السفاح يرتدي خلاله جاكيتاً وبنطلوناً، ولذلك طلب من الخفير أن يعطيه جلبابه بدلاً منهما.. استجاب الخفير علي الفور ثم عاد مسرعاً ليبلغ الشرطة التي اتجهته إلي القرية القبلية بحلوان المتاخمة للجبل. يحكي الكاتب الصحفي الراحل «جمال بدوي» في أحد كتبه أنه كلف أثناء عمله في صحيفة الأخبار بتغطية حصار الشرطة للسفاح مع الصحفي الراحل «عبد السلام داود» ويضيف أن «سليمان» تراجع تحت ضغط الحصار إلي أحد الكهوف الجبلية الذي يرتفع متراً ونصف المتر عن الأرض. وذكرت صحيفة «الأهرام»، في تغطيتها للقصة أن مناقشة مطولة استمرت 75 دقيقة بين اللص القاتل والشرطة وكانت قوة الحصار بقيادة اللواء «عبد الحميد خيرت» حكمدار العاصمة شخصياً وقتها. كان الحوار ظريفاً، حيث هدد «محمود أمين سليمان» بالانتحار، ثم طلب استدعاء زوجته «نوال» سبب مأساته بل ويذكر جمال بدوي أن اللص القاتل طلب استدعاء «محمد حسنين هيكل» رئيس تحرير الأهرام، وكان وقتها مرافقا للرئيس عبدالناصر في جولة أسيوية ومن أطرف مطالب «سليمان» أثناء الحوار - الحصول علي ورق أبيض لكي يكتب مذكراته، وسمع رجال الشرطة بوضوح صوت راديو كان يحمله السفاح معه وهو يذيع برنامجاً شهيراً وقتها اسمه «أكاذيب تكشفها حقائق» لمقدمه المذيع اللامع وقتها (أحمد سعيد)! الحوار الطويل تخلله تراشق بالرصاص بين الشرطة والسفاح أسفر عن إصابة جنديين، ويذكر «جمال بدوي» أن الشرطة اطلقت قنابل غازية اصطدمت بالجدار الخارجي للكهف فارتد الدخان إلي الصحفيين وإلي قوات الشرطة ثم صدرت أوامر باقتحام الكهف، فتحرك المقدم «عبد الرحيم العبودي» والنقيب «صفوت ثابت» للتنفيذ وبيد كل منهما مدفع رشاش وبعد دقائق خرج الضابطان وهما يحملان جثة السفاح ليستقبلهما تصفيق الجمهور! قالت صحيفة الأهرام: إن 17 رصاصة مزقت جسد السفاح،وتمت مكافأة كل ضباط الحملة واقتسمت مكافأة الالف جنيه مناصفه بين الخفير النظامي «عبد العظيم دياب» الذي أخذ اللص ملابسه، وإبراهيم علي طايل، سائق سيارة النقل التابعة للسكة الحديد التي استقلها السفاح في رحلته الأخيرة. عثرت الشرطة في حجرة السفاح في شارع «محمد علي» علي رسالة طويلة موجهة إلي رئيس تحرير الأهرام وقتها «محمد حسنين هيكل» دافع فيها سليمان عن نفسه، وطلب أن تنشر قصة حياته مسلسلة، وقال إنه إنسان منكوب بخيانة زوجته، وبظروفه البائسة، أما ضحاياه، فقد قتلوا عن طريق الخطأ.. وقال أيضاً إنه ولد فقيراً ثم أصبح لصاً في وقت مبكر، وقبض عليه عام 1958 لسرقة معطف أم كلثوم، وأضاف أن زوجته أرشدت عنه البوليس، واعترف بأنه أراد قتلها هي وصديقها المحامي، وكان يعرف بعد ذلك أن مصيره سيكون الموت، ووصف «سليمان» زوجته في رسالته الطويلة بأنها «ثمرة للجريمة وللرذيلة»!! حكاية مجرم تتكرر كل يوم وفي كل عصر، ولكن براعة «نجيب محفوظ» جعلتها تعبيراً عن بحث الإنسان الدائم عن «العدالة».