إن الزاهد حينما يتعامل مع المتع واللّذّات، يدرك أن هذا الإحساس نشوة عابرة، وموقف آن يتحرّك نحو التلاشي والفناء. ولا بدّ إذن لمن يعي ويقوِّم اللّذّة بهذا التقويم، ألا يجعل من اللّذّة والمتعة غاية، وألا يتهافت عليها، أو يطلبها بأي وسيلة. فهو عندما يدرك مثلاً أن لذّة التسلّط، ونشوة الحكم الّتي ينتجها الإحساس الخاطئ بالتعالي لدي البعض. وتوفرها الدماء، ودموع المظلومين. ليست إلاّ الألم والعذاب الّذي يخدعه ويوهمه بالإحساس باللّذّة.. سيقف موقف الرافض لها، الزاهد فيها. وهو حينما يواجه ارتياح الإنسان الجشع إلي جمع المال، وإحساسه بالنشوة واللذّة فيما ينتزعه من أفواه الجياع أو يعتصره من جهود الكادحين، ليحشر الملايين في مقابر المال وصناديق الاكتناز، لا يمكن أن يغري أو يجرّ إلي السقوط تحت أقدام هذا الجشع والانتحار الأخلاقي، وهو يعرف أن موقفه هذا يغتال لذّة الإحساس بالخير وحبّ العدل بطعنة الإحساس الأناني الهلع. وهكذا في كل موقف : تري الزاهد ذلك الإنسان الّذي يتعامل مع الأشياء، واللّذّات، والنوازع، بوعي وتثمين عقلاني سليم؛ علي هدي من وعي الإسلام، وتحليله للّذّة والمتعة. الغاية من الفعل: أمّا عنصر تعامل الزاهد مع كل شئون الحياة، فهو عنصر الغاية من الفعل الّذي يفعله، والموقف الّذي يقدم عليه. وهو بوعيه الّذي توفّر لديه، وإحساسه المستبطن لهذا العالم من خلال فهمه للزمن والعلاقة مع الموجودات، وتحليله للنوازع والدوافع العميقة نحو الأشياء، وفهمه للّذّة والانفعال... فهو من خلال كل ذلك غدا مُدرِكاً لقيمة الأشياء. عارفاً بحقيقتها، لذا فهو يصرّ علي تفاهة قدرها، وانحطاط شأنها، وعدم كفاءتها علي احتلال موقع الهدف والغاية من نفسه. ومن هنا كانت الحياة في تقديره واعتباره أداة ووسيلة. والغاية عنده أسمي، والهدف أبعد وهو رضوان الله وجزاؤه، وبهذه العقلانية والتعامل الموضوعي تنتصر إرادة الإنسان، وتتّجه نظراته إلي ما هو أسمي من الإثارة الحسّية، والمتع المادّية العابرة، فيظل يتعامل معها تعامل المترفِّع عنها.. المتعالي عليها.. الّذي لا يجد فيها غايته، ولا يرضي أن تكون مجالاً لصرف كل طاقته ونشاطه. ويساعد هذا الفهم والموقف علي خلق مجتمع إنساني، لا يرتبط بالحياة ولا يخاف ضياعها، أو فوات ما تهفو إليه النفس منها. وينجم عن هذا الشعور الإنساني أيضاً مردودات نفسية واجتماعية ذات أثر بالغ الأهمية علي استقرار النفس والمجتمع، وخلوّهما من عوامل الصراع، والتوتّر والآلام، والتخلّص من أزمة التعلّق بالحياة والخوف علي ضياعها. فهذا الخوف والقلق الّذي يعيش بصيغته الحادّة حرباً نفسية، وعذاباً أخلاقياً، يقاسيه إنسان الحضارة المادّية الهلعة ويصطلي بناره المدمنون علي حبّ الحياة، وبهذه الآثار الإيجابية يمهِّد الزهد لقيام مجتمع السلام والكفاية والطمأنينة. فالإنسان في هذا المجتمع لا يفكِّر بالعدوان، ولا يشعر بالخوف أو القلق، ولا يحاول الجمع والاستحواذ.. فهو يري كل ذلك دوراناً في فراغ الفناء، وعبثاً في متاهات الضّياع. لذلك تختفي مع هذا المفهوم الإنساني الصحيح كل دوافع الصراع والتنافس علي المال والثروة والسلطة واللّذّة.. الخ. ويتحوّل مفهوم الإنسان عن التنافس والتسابق.. من الصراع والانتقام والعدوان من أجل الاستحواذ علي المال والثروة والسلطة واللّذّة إلي تنافس في حبّ الخير، وسعي للبناء والإصلاح، من أجل خير المجموع، وهدايتهم. والزاهد يجد دليل العمل، والدعوة إلي تحويل التنافس والتسابق من ساحة الصراع والاستهلاك إلي ملاك الخير والإصلاح في قوله تعالي: (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيفْرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يجْمَعُونَ). (يونس / 58) (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيرَاتِ). (البقرة / 148) إذن فليس الزاهد هو معتزل الحياة. ولا هو المنطوي في زوايا المسجد أو البيت. يلتصق بالأرض، ويشتغل بالدُّعاء والتسبيح. ولا هو ذلك الإنسان السلبي الّذي يتهرّب من مسئوليات الحياة، أو يستنكر التعامل معها. بل الزاهد هو من أخرج حبّ الدُّنيا من قلبه، فلا يحزنه ما فاته منها، ولا يفرحه ما يكسبه من حطامها. مستوحياً فهمه، ووعيه للزّهد؛ من هدي القرآن، وتوجيهه. فهو يعرف الصورة الحقيقية الّتي تظهر فيها الحياة، والحصيلة الّتي يجنيها الإنسان من عطائها.