في جميع ألبومات الصور، في كل العائلات المتوسطة والثرية، ثمة مجموعة من الصور إلتقطتها كاميرا الأسرة أو كاميرا المصور المحترف للبلاج ولأفراد الأسرة بالمايوه ولشاطئ البحر في أقصي أوقات ازدحامه، عندما كان صفان أو ثلاثة من الشماسي يثيران استياءنا. المصايف الشهيرة رأس البر والإسكندية، جمصة وبورسعيد، قبل أن يلتفت الناس لشواطئ البحر الأحمر ويتعاملون معها كمصيف بعد أن كانت بالنسبة للكثيرين مشتي. ألبوم صور عائلتي يضم صورا التقطها أبي لي في رأس البر ولم أكن قد بلغت عامي الأول. تظهر فيها أمي بثوب قطني عاري الأكتاف وشعر كالحرير يتطاير مع الريح، وتظهر جدتي بثوب ينحسر عن ساقيها أسفل الركبة ورباط رأس من الشيفون الخفيف يكشف تحته عن شعر أسود تصففه علي شكل فستونات تحيط بالجبين والوجنتين، وتظهر فيها عماتي بأثواب نصف كم وديكولتيه بسيط يكشف عن أناقة السيدات ولا يلفت إليهن الأنظار. تضع جدتي نظارة شمس مستديرة تغطي بالكاد عينيها وتمسك بعصا لها رأس من الفضة والأبنوس تتكيء عليها في مواجهة المصور وتبدو في مركز الصورة كأنها صاحبة البيت أو منظمة الرحلة. هي التي تدعو الأخوة والأخوات لرحلة الصيف وهي التي تحدد أفضل موعد لقضاء أسبوعين علي البحر. وهي التي تختار الشاطئ كل عام، وترسل من يتفق مع أصحاب الشاليهات في رأس البر أو من يستأجر شقة تطل علي البحر في الإسكندرية، وتقاول من يأتي لها بسيارة أجرة كبيرة تحملها هي وخادمتها وبعض الأحفاد في اليوم المحدد للسفر فيما تلحق بها الآباء والأمهات كل في سيارته بصحبة خادمة صغيرة توكل إليها مهمة الجري وراء الأولاد علي الشاطئ وغسل المايوهات والفوط بعد العودة من البحر ومراقبة الطريق الرملية بين الشاليهات في المساء حتي لا يبتعد الأولاد كثيرا عن البيوت. ذات مرة، كنا في رأس البر كعادتنا وكانت الأسر كلها مجتمعة في الشاليه الذي نسكن فيه مع جدتي. لا أحد يفكر في الذهاب للبحر قبل الرابعة بعد الظهر في انتظار أن تنكسر الشمس ويخف الزحام والأولاد مستاءون ينتظرون بفارغ الصبر إشارة البدء في الاستعداد لرحلة الشاطئ التي كانت تطلقها جدتي بمجرد أن تغادر مجلسها الاستراتيجي في الفراندة. كنا ننصت للكبار وهم يتداولون فيما بينهم بشأن قضاء السهرة في منطقة الجربي أو الذهاب لمشاهدة فيلم سعاد حسني الأخير، خلي بالك من زوزو. ونخرج من وقت لآخر لنعلب الكرة حول الشاليه أولادا وبنات لا تمنعني أمي عن اللعب طالما أني أرتدي الشورت مثلي مثلهم ثم نعود وننظر من فتحات الخوص المضفر في سور البلكونة للكرسي الذي تجلس عليه جدتي فنجدها مازالت في مكانها. مر بجوار الشاليه صياد يحمل مشنة كيبرة من الخوص علي رأسه ونادي علي الجمبري بلحن وكلمات أغرت الجميع علي السكوت والإنصات له. ولما تجاوز الفراندة كأنه لا يعبأ بنا، نادته أمي. غمزت لها عمتي وزوجة عمي بما يعني أنهما أيضا يرغبان في الشراء وهمهمت جدتي بكلمة أسكتتهما وهي تعدل وضع عصاها وتتكئ عليها في وضع التحفز. اقترب الرجل من السلم ووقف ينتظر فدعته أمي للصعود إلي الشرفة. عندما وضع المشنة علي الأرض، كانت المرة الأولي في حياتي التي أري فيها جمبري صاحي! بعد أخذ وردٍ واستفسار عن الثمن ومقارنته بسعر الجمبري في السوق اشترت أمي المشنة بالكامل، لها وللأخريات. ثم أعلنت أنها ستقضي بقية النهار في الشاليه لتنظيف الجمبري ووضعه في صندوق الثلج استعدادا للطهو غدا. ذهب الأولاد مع الدادات إلي الشاطئ بصحبة جدتي، وبقيت مع أمي أتأمل كيف تخلص اللحم من قشر الجمبري الساكن والمتحرك بدربة وسرعة تحسد عليهما. بعد الانتهاء من التقشير كنت قد عرفت بما لا يقبل الشك أن هذا المشهد سيكون سببا في قطع علاقتي بالجمبري وبكل ما يسمي فاكهة البحر إلي الأبد. صور الإسكندرية مختلفة. كأن رأس البر - مثلها مثل جمصة - قد احتفظت ببكارتها وبساطتها علي مر الأيام في ذاكرتي. أما الإسكندرية فكانت أكثر تعقيداً. البحر هو البحر لكن النزهة الليلية في المعمورة فلا تشبه في شيء نزهاتنا في مدن صغيرة أخري. رحلات المعمورة ارتبطت بمرحلة مختلفة انتقلت فيها الزعامة من المصايف المعتادة في رأس البر وعلي شواطئ الإسكندرية القديمة إلي شاطئ المعمورة الأحدث عمراً. بعد وفاة جدتي قررت أمي وخالاتي نقل نشاط المصيف للمعمورة، يذهبن إليها بصحبة الأولاد ويخلفن وراءهن الأزواج في القاهرة. نقضي شهرا في شقة كبيرة ونعود للقاهرة وقد صارت جلودنا القمحية أكثر دكنة وابتساماتنا أكثر بياضا. في المعمورة كانت الملاهي أكبر والمحال أكثر تنوعا، والمقاهي تنتشر في كل مكان لبيع العصائر والآيس كريم والفطير بأنواعه المحشو والمملح والمرشوش بالسكر البودرة والعسل. وكانت البنات أكثر تحررا والأولاد أكثر شقاوة والموسيقي التي تعلو هنا وهناك يختلط فيها صوت عبد الحليم حافظ بأغنيات الأبا وخوليو اجلسياس وبول أنكا والسهر يمتد لما بعد منتصف الليل. وعندما نعود في الواحدة صباحا للشقة المطلة علي صف الشاليهات نشعر كأننا قضينا الليل كله في الخارج، وعندما نصحو في العاشرة صباحا نشعر كأننا قضينا النهار كله في النوم. صوري في ألبوم المعمورة كثيرة، تحت الشمسية بالمايوه أقرأ لغزا أو كتابا للشياطين ال13، ومن حولي إخوتي وأبناء خالاتي بمايوهات مضحكة، أمام باب العمارة أجلس علي مقدمة السيارة البيجو ستيشن التي اشتراها زوج خالتي بعد عودته من الجزائر. في الفراندة المطلة علي حقل الجوافة الكبير في شقة استأجرناها علي أطراف المعمورة ذات صيف بعيد. صور مجتزأة من ماض يبدو أننا نبتعد عنه اليوم بسرعة الضوء ولا أعرف كيف ينسي الناس تاريخهم القريب بهذه السرعة وما الذي فسد منه ومن الذي أفسده علينا.