التسامح الديني - كما عرفته أوروبا منذ القرن ال 17 - سيظل المثال الأبرز للتسامح الثقافي، لأن الملل المتعددة للمسيحية - رغم أنها تنتمي إلي دين واحد، وكتاب واحد - لم تكن يتعارض بعضها مع بعض بشكل عارض أو طارئ، ولكن لأن كلاً منها كانت تتصور نفسها «التفسير الحق للدين الشامل»، وهو ما أدي إلي «التعصب» و«العنف». والتعصب في اللغة هو عدم قبول «الحق» عند ظهور الدليل بناء علي ميل إلي جهة أو طرف أو جماعة أو مذهب أو طائفة. وهو من «العصبية»، وتعني ارتباط الشخص بفكر أو جماعة والجد في نصرتها والانغلاق علي مبادئها. رغم أهمية التسامح كقيمة ثقافة وحقوقية في تحقيق السلام الاجتماعي والعالمي، فإنه يصعب تطبيق التسامح في كل الأحوال والحالات، فلم يكن معظم المنادين بالتسامح مستعدين دائمًا للسير بهذا المبدأ حتي نهاية الشوط. ف«جون لوك» أكبر المؤيدين لمبدأ التسامح، وضع مجموعة من الضوابط، من يتعدها فلا يمكن التسامح معه بأي حال من الأحوال، وأغلب هذه الضوابط يخص «الدولة» لا «الدين»، الشيء نفسه نجده عند «فولتير» صاحب أشهر مقولة في الحرية وحق الاختلاف في الرأي. أما الفيلسوف الأمريكي «جون رولز» فقد ناقش «حدود التسامح» مناقشة مستفيضة، في كتابه «نظرية العدالة»، وطرح هذا السؤال المحوري: أينبغي أن نتسامح مع «العنف»؟.. أن نتسامح مع ما يهدد التسامح نفسه؟ وخلص إلي أنه: وفقا للقاعدة الذهبية للأخلاق وهي «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به»، فإنه ليس من حق الجماعات غير المتسامحة أن تتذمر عندما لا يجري التسامح معها. إن التسامح ضرورة معرفية وأخلاقية أيضًا، من أجل الوصول إلي الحقيقة وتصحيح أخطائنا باستمرار، ذلك لأن محدودية العقل الإنساني وقابليته للوقوع في الخطأ في الوقت نفسه - كما يقول كارل بوبر - تدفعنا إلي التواضع العقلي، وأن «يتعلم» بعضنا التسامح مع أخطاء بعض وجنون بعض حسب تعبير فولتير. فقد أكون «أنا» علي خطأ، و«أنت» علي صواب، وربما، من خلال الحوار نصل معًا إلي الحقيقة أو علي الأقل نقترب منها. من هنا فإننا نحتاج إلي الآخرين لاكتشاف أخطائنا وتصحيحها، وهم يحتاجون إلينا أيضًا. ناهيك بأن التسامح يحافظ علي الاختلاف والتعدد والتنوع، الذي هو مصدر ثراء البشرية وغناها وسر حيويتها واستمراريتها، والإنسان مرهون بالمغايرة والاختلاف وعدم التطابق، ولا معني للتسامح أصلاً إذا كانت الأمور كلها تستدعي التماثل سواء في الفكر أو العقيدة، وربما كان التسامح هو الوئام والاتفاق في سياق الاختلاف والتباين. من هنا يختلف التسامح تمام الاختلاف عن اللا مبالاة أو عدم الاكتراث أو التنازل لشخص كتعبير عن الأدب، باعتبار اشتقاق الكلمة من لفظة «س. م. ح» في اللغة العربية. كما أن التسامح لا يعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تنحي المرء عن معتقداته والتهاون بشأنها: ولا يعني أيضًا ممارسة دور الحرباء والتلون بفكر وآخر، أو القفز من عقيدة إلي عقيدة أخري، أو المواطنة السلبية الجبانة، ذلك لأن التسامح هو التعبير الأكثر كمالاً لحرية الإيمان والتفكير والتعبير. لكن يبدو أن التسامح في عصر العولمة وما بعد الحداثة أصبح مسارًا باتجاهين غالبًا، حسب تعبير «يورجن هابرماس»، ولهذا: لا ينبغي فقط أن يتسامح المؤمنون إزاء اعتقادات الآخرين، بما فيها عقائد غير المؤمنين وقناعاتهم فحسب، بل إن من واجب «العلمانيين» وغير المتدينين، أن يثمنوا قناعات مواطنيهم الذين يحركهم دافع ديني». ويؤكد في بحثه المعنون ب« الدين في النطاق العام» أنه «مهما كانت مفاهيمنا الفلسفية العلمانية قوية ومقنعة - كفكرة حقوق الإنسان علي سبيل المثال - فإنها تستفيد، من حين إلي آخر، من اتصالها المتجدد بأصولها المقدسة».