لا أعرف لماذا سألت نفسي فجأة هل هناك دماغ صيفية ودماغ شتوية؟ قلت لنفسي أجل الدماغ الصيفية غالبا إذا كان صاحبها جالسا، تكون ساقطة علي صدره مغمضة عينيها كأنها وصاحبها متروكان في مكانهما من قديم الأزل، بينما الدماغ الشتوية يقظة تدور عيناها بالفطنة والذكاء والرغبة في الحركة. الدماغ الصيفية قد تتحرك لكن بسبب الضيق الذي يسببه العرق، الذي بدوره يجعل الملابس ضيقة مهما اتسعت، وهذه الحركة تكون كأنها رغبة في الفرار، لكن صاحبها لا يتحرك. والدماغ الشتوية قد تنام وتسقط علي صدر صاحبها ،ولكن من الراحة والدعة، وتفتح الطريق للأحلام السعيدة. في مقدمته الشهيرة قال ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع في الدنيا، إن شعوب البلاد الباردة نشطة ومنتجة، ،بينما شعوب المناطق الحارة كسولة، بما يصعد إلي الدماغ من أبخرة الحر، ومن حسن حظي أنني سافرت كثيرا، لكن أكثر سفراتي كانت إلي البلاد الحارة أو المعتدلة. ذهبت في العالم العربي إلي الكويت مرة منذ أكثر من عشر سنوات، ،لكن كانت زيارة قصيرة، وكنت أنتقل من مكان مكيف الهواء إلي مكان آخر مكيف الهواء، وبين المكانين لم أشعر بالحر لأن الأمر لم يستغرق إلا دقائق. والمحل الوحيد الذي دخلته وكان صغيرا جدا ولم يكن مكيفا سألت صاحبه الجالس عن شيء فقال لي دون ان ينهض من مكانه: لا يوجد، وكان ما أساله عنه واضحا أمام عيني وانصرفت مندهشا. سافرت في السبعينيات من القرن الماضي وعملت في المملكة العربية السعودية لكن كنت في الشمال . في تبوك. وكان المكان في العمل مكيفا وفي البيت. ولم أكن أنزل الأسواق إلا بالليل ولوقت قصير، ولم أمكث هناك أكثر من عام. في الإسكندرية التي عشت بها سنوات عمري الخمس والعشرين الأولي، كان الصيف قصيرا، وغالبا كنت خارج البيت، علي البحر بالنهار، وفي المقاهي بالليل، ورغم ذلك كان الحر والرطوبة يمنعانني من العمل أو الكتابة، وظلت هذه العادة معي فلا أكتب في الصيف رواية أو قصة، وإن كنت أكتب الآن المقالات طول العام، ولكن بعد أن ينتصف الليل دائما. رأيت العالم البارد في أوروبا كيف هو متقدم، وكيف لا يكف الناس عن الحركة والنشاط في العمل وفي الإجازات. رأيتهم هناك في الصيف والشتاء، الفارق الوحيد أنهم في الصيف يخلعون ملابسهم أو أكثرها، والصيف هناك لا تتجاوز فيه الحرارة عشرين درجة إلا نادرا. مجرد صعود الشمس إلي السماء يعني التخفف من الملابس ليشرب الجسد غذاءه من الأشعة. وحين يهل شهر أغسطس يأخذ الجميع إجازاتهم لشهر كامل، ولا يعمل إلا عدد قليل في البنوك أو المستشفيات أو الشرطة طبعا ،وغير ذلك من الأعمال الخدمية. أمضيت وقتا طويلا مرة في بلدة لاروشيل الفرنسية علي المحيط الاطلنطي في الصيف، وكانت الشمس تنعكس علي من كل مكان، واكتشفت أنها تنعكس من أجساد النساء والرجال العارية حولي في الطرقات، وحين أهلّ الشتاء اختفي المصيفون، ونزلت الملابس الثقيلة علي جميع الأجساد لكن الحركة ازدادت في الشوارع، وبدا كأن النشاط قد دب في الأرواح أكثر مما فعلته الإجازات وهو حقيقي. الأمر نفسه رأيته في ألمانيا وإيطاليا والنمسا أما روسيا فحدث ولا حرج عن عظمة الإنتاج الروسي، رغم أن البلاد يغطيها الجليد، وكنت أمشي بسرعة أصابتني من سرعة الناس والحرارة خمس عشرة درجة تحت الصفر. الدماغ الشتوية متعطشة ووثابة وطموحة، والصيفية ساكتة ميتة تنتظر هبَّة نسيم. يزداد الأمر تعقيدا في البلاد المزدحمة مثل بلادنا، فالقدرة علي التحمل في الحرّ أقل لذلك تزداد الخناقات في الأماكن المزدحمة، كالمواصلات العامة، وتزداد سرعة السيارات بلا نظام، ولا أحد مستعد أن يعطيك الفرصة قبله، وإذا بدا عليك التذمر فأقل ما يصيبك هو أن يشيح لك بذراعه في قرف وضيق، وإذا ظهر منك احتجاج ما سمعت ما لا تحب. هذا كلام أكتبه تحت وطأة الحر الذي يستقر ولا يتزحزح فوق البلاد، وأفكر في رمضان القادم. ليس في العطش ولا في الجوع، ولكن في سلوك الناس تحت الحر في الشوارع، وسلوك الناس في أعمالهم. ستجد الموظفين شبه نائمين فوق مكاتبهم وستقل قدرتهم علي الاستماع إلي أحد، وسيكون الإنتاج في هذا الشهر الكريم أقل منه في كل الشهور. وأود لو أقترح أن تعطي للناس إجازة في هذا الشهر الكريم، بحيث تقسم بينهم أسبوعين لنصف الموظفين، ثم أسبوعين للنصف الثاني، دون المساس بأجورهم وحوافزهم. أود لو أقترح ذلك، ،لكن طبعا لن يلقي الاقتراح أي أذن صاغية وسيعتبر تخاريف حر وتعطيلا للعمل ولمصالح الناس رغم أن الحقيقة أن الجهاز الوظيفي علي حضوره الكبير يعمل بربع أو خمس طاقته دائما. تخيل حضرتك كيف تكون المصالح وهي خالية من نصف الموظفين، وكيف ستكون الحركة فيها، وفرصة الهواء أن يتحرك، وتخيل حضرتك كيف ستخلو الطرق من أعداد ضخمة من السيارات والمركبات، مما قد يذكرنا بأن الوطن يحتاج إلي هذه الراحة من الأجساد والمركبات المكدسة فوقه، ويدفعنا هذا إلي التفكير الجاد في تعمير الصحراء وسيناء وإسكانها. أجل سوف نري البلاد بالنهار في شكل أجمل يجب أن تكون عليه طول العام، ولن يتحقق ذلك إلابنقل هذه الكثافة السكانية إلي الفضاء غير المعمّر من البلاد، ومؤكد سنعود نفكر في هذه الكثافة السكانية التي زادت جدا، وكيف تركناها ولم نستطع ببرامج تنظيم الأسرة الاعتيادية أن نسيطر عليها. سنفكر جديا في معني تنظيم الأسرة الحقيقي وفائدته أن تتنفس الأرض والناس. سنري بأعيننا كيف صارت الأرض حولنا أجمل بعدد أقل من السكان، وأننا الذين أثقلناها، نحن والحكومة معا. نحن حين مشينا وراء الإنجاب دون إمكانية للتعليم أو الصحة أو حتي الأكل والشرب، والحكومة حين تركت الناس تفعل ذلك دون أن تكثف حملاتها لتنظيم الأسرة، ودون أن تستفيد بكل هذه الأعداد في أي برامج صناعية أو زراعية وتركتهم في الطرقات أو البطالة، لأن أكثرهم من الفئات الفقيرة للأسف الشديد. أجل نحتاج أن نري بأعيننا شكل المدن ونصف أهلها ليسوا في الطرقات. والله لن ننسي ذلك أبدا. ولن تخسر الحكومة شيئا من غياب موظفين لا يعمل أكثر من نصفهم أصلا، لا في الصيف ولا في الشتاء. لو حدث ذلك سيكون رمضان أكرم من كل عام. وأرجوكم لا تعتبروا ذلك من أثر الحر علي الدماغ.