هكذا جاءتنا حادثة جديدة مثيرة للاهتمام ولتشغلنا حتي تأتينا أخري فنظل مغيبين، لكن الواقعة فتحت مجالاً لحديث يتجاوز الواقعة. إذا سألت طبيباً نفسياً - وقد فعلت - عن أسباب استفحال ظاهرة الانتحار، فإنه لن يجد أصلاً في الأمر ظاهرة، علي أساس أن الأرقام دائماً في مصر حول أي موضوع تظل محل شكوك، وبالتالي لن يعتبر أن شيئاً قد استُفحل، وسيرد بعبارات تتوقعها عن أن المنتحر يصل إلي مرحلة في التفكير المريض يعتبر فيها أن الآخرة أفضل من الحياة التي لم يعد له فيها قيمة، وأن لكل منتحر أسبابه الشخصية. أما الأسباب العامة التي تجعل عقلاً يمرض وقد يصل به الأمر إلي اختيار الانتحار مصيراً أو وسيلة للخلاص من حياته فبينها الفهم الخاطئ للدين أو عدم فهمه علي الإطلاق وبالطبع ارتفاع نسبة الأمية، وتدهور أحوال التعليم وانتشار الجهل، وتزايد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، وانهيار النسق القيمي وزيادة الهوة بين طبقات المجتمع، وسريان الخرافات والأفكار الغيبية بين الناس. ما سبق محصلة حوار جري بيني وبين الدكتور يحيي الرخاوي لكن تبقي أسئلة قائمة حتي لو سلمنا بأن الأمر لا يعد ظاهرة باعتبار أننا شعب تجاوز ال80 مليوناً، لماذا بدأ المنتحرون يتفننون في ابتكار طرق لافتة للنظر عندما ينتحرون؟ ونموذج الشاب الذي شنق نفسه فوق كوبري قصر النيل مثال علي ذلك. ولماذا لا يحرص المنتحر أحياناً علي حياة الآخرين، ويتركهم في أحوالهم ويصر علي أن يأخذ معه أرواحهم. ونموذج حادثة منطقة أبوالنمرس في مدينة 6 أكتوبر أمس الأول مثال لشخص أقدم علي قتل آخرين وهو يعلم أن مصيره الإعدام، أي لا فرق بينه وبين من سيقدم علي الانتحار، ولماذا ينتحر وزير مثلاً في اليابان إذا أخطأ في حين يسعي كل من هنا إلي الهروب من أخطائه وتبريرها بل ونفيها عن نفسه وتحميلها للآخرين؟ الأمر بكل تأكيد له علاقة بالعلم والطب النفسي، وتبقي الأسباب التي طرحها الدكتور الرخاوي صحيحة، والعبد لله باعتباري مواطناً يتأثر بما حوله ويعيش بين الناس في هذا المجتمع، ويتعرض لضغوط أحياناً ومعاناة في أحيان أخري وينتصر وينكسر بحسب الظروف، أري أن الهروب من كل مواجهة طبعاً قد يؤدي أحياناً بصاحبه إلي الانتحار وأن "تكبير الدماغ" و"البلادة" و"عدم الإحساس" و"البجاحة" و"التكبر" طباع أخري وصفات شخصية لن يقدم صاحبها أبداً علي الانتحار بل ربما تكون أسباباً لأن يفكر من يتعاملون معه من أصحاب القلوب الرقيقة أو الطيبة أو العقول البسيطة إلي الانتحار لمجرد أن ليس لديهم القدرة علي تحمل تصرفاته. لا يعني ذلك أن المنتحر حمل نفسه المسئولية عن أخطائه فعاقب نفسه وإلا كان عاقب نفسه دنيوياً بل إنه مهما كانت الأسباب فإنه نموذج علي الهروب من كل مسئولية. أما التفنن في طرق الانتحار فيعود غالباً الي الرغبة في الإعلان عن الاحتجاج ولفت الانتباه بعد الموت!! إذ يعلم صاحبنا أن الناس ستلوك قصته وستبحث في أسبابه وستعلق علي طريقته المبتكرة الجديدة، وهذا أيضاً يعكس خللاً شديداً في التفكير والحكم علي الأمور. ولا يعني انتحار وزير في اليابان أن تفكيره سليم أو أن مشاعر صاحبنا المنتحر الياباني مرهفة بدرجة تفوق وزراء الدول الأخري، فالانتحار في أي بلد وفي كل الأديان محرم وصاحبه آثم ومريض في آن، لكنه الفارق بين الإحساس بعقدة الذنب بين من يعاقبون أنفسهم بالكفر والموت وبين من لا يشعرون أصلاً أن لهم أخطاءهم وعليهم أن يحاسبوا أنفسهم عليها طالماً أن من حولهم لا يحاسبونهم ويستفيدون منهم ومن أخطائهم بل يصورون لهم في غالبية الأحيان أنهم مظلومون.