في بدايات شهر يونيو الحالي، عقد د.أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء اجتماعا مع 100 من علماء مصر الأفذاذ في الخارج ممن يعملون في جامعات أمريكية وأوروبية ويشكلون المجلس الاستشاري لضمان جودة التعليم العالي في مصر في اطار جهود تقييم أداء الجامعات المصرية ورفع مستوي جودتها لتستطيع المنافسة دوليا. التنسيق مع علماء الخارج لرفع جودة التعليم خطوة ضرورية بل وأساسية للنهوض بالمؤسسة التعليمية في مصر وان جاءت متأخرة، لكن الأهم من التنسيق مع هؤلاء العلماء والأهم من تشكيل المجلس الاستشاري هو توافر ارادة حقيقية ورغبة قوية ومسعي جاد في اصلاح منظومة التعليم المصرية وتسخير كافة المقدرات المصرية لخدمة هذا الهدف بحيث تتحول النهضة لحلم قومي يعمل من أجله أفراد المجتمع فتقدم الأمم لا يأتي الا باصلاح التعليم علي مستوي المدارس والجامعات فهو المفتاح للابتكار والنمو الاقتصادي.. وحتي يحدث هذا الاصلاح ستظل ظاهرة "هجرة العقول" هي السائدة ليس في مصر فقط بل في كل دولة لا تهتم بمنظومتها التعليمية. مبادرة النهوض بالتعليم الجامعي لا يجب أن تأتي من الجامعات الحكومية بل يمكن أن يتبناها رجال أعمال وطنيون يأخذون علي عاتقهم هذه المهمة الشاقة وهم علي يقين من أن الاستثمار في البشر هو أفضل رأس مال تجود به مصر عليهم، كما أن الاهتمام بالتعليم يجب أن ينبع أيضا من واقع يؤكد أن المنافسة الدولية الآن باتت تقوم علي الأفكار وليس علي التجارة بعد أن ضربت ظاهرة العولمة الجامعات وغيرت شكل التعليم في العالم بما جعل السوق العالمي أشبه ب"بازار دولي للتعليم" قائم علي معلومات معولمة كما يصفه بن ويلدافسكي محرر التعليم السابق بموقع "يو اس نيوز آند وورلد ريبورت" وجريدة "سان فرانسيسكو كرونيكل".. وهذا البازار التعليمي هو أيضا السبب وراء تزايد عدد الطلاب الذين يذهبون للدراسة في الخارج وعددهم ثلاثة ملايين (نصيب أمريكا منهم 22% وفق تقديرات مؤسسة بريطانية) بزيادة قدرها 57% في العقد الماضي مما يعني أن النسبة آخذة في التصاعد وهناك توقعات بأن يصل العدد إلي 8 ملايين بحلول عام 2020 وهو ما يتابعه عن كثب معهد التعليم الدولي Institute of International Education في نيويورك. ويلدافسكي أصدر كتابا في مارس الماضي بعنوان "سباق العقل العظيم: كيف تعيد الجامعات الدولية تشكيل العالم" The Great Brain Race: How Global Universities Are Reshaping the World وهو كتاب رائع بحق لأنه يجمع تجارب دول عديدة أهمها الصين والهند وسنغافورة في النهوض بالتعليم اذا ما أرادت ذلك وسعت له بكل جدية بحيث لم تعد الولاياتالمتحدةالأمريكية هي قبلة العلم الأولي والأخيرة بل دخلت دول أخري علي خط المنافسة خاصة في مجالي الهندسة والتكنولوجيا، بل انه يرصد تجارب دراسية لم يتعين علي الطلاب فيها السفر لاكمال دراساتهم في الخارج وذلك بعد أن بدأت دول عديدة في آسيا وحتي الشرق الأوسط في الاستثمار في بناء جامعاتهم الخاصة مثل السعودية والدخول في شراكات مع جامعات كبري مرموقة في العالم مثلما فعلت قطر والامارات حتي أصبح حرم الجامعة نفسه متنقلا وليس الطلاب فقط، أو مثلا خيار الدراسة الاليكترونية علي الانترنت التي اقتحمت مجالات عدة لم تكن مطروقة في الجامعات ووفرت أيضا عناء السفر. جامعات وطنية الكتاب يمكن أن يكون مرجعية هامة لأي دولة تسعي للنهوض بمستوي جامعاتها لتنافس دوليا لأنه يعرض لنماذج صغيرة كبرت وسطع نجمها مثل المعهد الهندي للتكنولوجيا Indian Institute of Technology (IIT) في مدينة مادراس علي سبيل المثال وليس الحصر في الهند.. وهو معهد ذائع الصيت يعتبره البعض "ام آي تي الهند" نسبة الي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الأمريكي Massachusetts Institute of Technology (MIT) اذ انه لا يقبل سوي 2% أو 3% من الطلاب المتقدمين للالتحاق به مختارا صفوة الصفوة من جميع الجنسيات. جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا "كاوست" في السعودية هي نموذج آخر لهذه الجامعات والتي خصص لها الملك عبد الله وقفية تصل الي 10 مليارات دولار مما جعلها سادس أكبر جامعة في العالم من حيث أصل مالها. أما الصين فقد نجح استثمارها في التعليم في زيادة المؤسسات التعليمية من 1022 إلي 2263 مؤسسة كما تضاعف عدد الطلاب الصينيين المسجلين في الجامعات عدة مرات، وفق ما كتب ريتشارد ليفين رئيس جامعة ييل الأمريكية في مجلة "فورين أفيرز" الشهر الحالي راصدا تصاعد الجامعات الآسيوية. كل هذه المعطيات هي مؤشر علي أن وجهة العلم لم تعد تقتصر علي الغرب بل يمكن أن تتحول الدفة الي الشرق أيضا اذا رغب أهل الشرق في ذلك وهو يعني أيضا أن الجامعات الغربية باتت في حالة منافسة علي العقول النابغة للاستفادة منها في الأبحاث والمعامل لأنها تشكل رأس المال البشري كما أنها تمثل مكسبا ماديا هائلا نظرا لمصاريف الدراسة الباهظة التي يدفعونها خاصة بالنسبة لدول مثل بريطانيا وأستراليا وحتي نيوزيلندا التي تعلن وزارة التعليم فيها علي الانترنت عن رغبتها في حشد طلاب من جميع أنحاء العالم من خلال اعلانات مصورة عن مزايا التعليم هناك وضمانات الاقامة ولا تخلو أيضا من مناظر طبيعية في البلد. فروع جامعية أما ظاهرة فروع الحرم الجامعي للجامعات الدولية المرموقة أو الجامعات التي تعمل بنظام الفيديو كونفرانس والستالايت في آسيا والشرق الأوسط فهي تنمو بشكل كبير وسط غفلة منا أو عدم اهتمام من قبل المؤسسات التعليمية في مصر، فاليوم هناك 162 فرعا لجامعات كبري في العالم وقد شهدت زيادة بنسبة 43% خلال السنوات الأخيرة نظرا لشراهة العالم للعلم الغربي.. من هذه الأمثلة حرم جامعي يتبع جامعة نيويورك في أبو ظبي وآخر تخطط الجامعة لانشائه في شنجهاي بجانب فرعهم في واشنطن، ومثال آخر هو مدينة التعليم في الدوحة التي تضم حرم ست جامعات أمريكية مثل كلية الخدمة الخارجية Foreign Service المعنية بالشئون الدبلوماسية بجامعة جورج تاون وكلية ميديل للصحافة بجامعة نورث ويسترن وكلية ويل للطب بجامعة كورنيل وكلية الفنون بجامعة فيرجينيا كومنولث وجامعة كارنيجي ميلون وأخيرا جامعة تكساس ايه أند ام. سنغافورة أيضا تضم فرعا لمعهد "ام آي تي" كما تتواجد كلية التجارة بجامعة شيكاغو هناك وأيضا كلية "انسيد" INSEAD للتجارة المشهورة التي أنشئت أولا في فرنسا والآن لديها حرم جامعي في سنغافورة حيث يمكن بدء الدراسات العليا هناك دون أي تفرقة بين الفرع الرئيسي في فرنسا أو فرع سنغافورة. المنافسة علي الطلاب سخونة المنافسة دفعت البعض للتعامل مع التطورات بطرق غير حكيمة كما يقول ويلدافسكي بغرض "الحماية الأكاديمية"، مشيرا الي رئيس معهد التكنولوجيا الهندي الذي منع طلابه من الدراسة في الخارج علي سبيل التدريب أو من أجل منح دراسية وقرار جامعة تينيسي منذ 10 سنوات تقريبا وضع سقفا لعدد الطلاب الأجانب في كل قسم لديها حددته بنسبة 20% والذي أعاق قدوم الطلاب الأجانب المتميزين الذين يشكلون عادة في أقسام مثل الهندسة وعلوم الكمبيوتر ما بين 60% الي 65% من نسبة الطلاب في مرحلة الدكتوراة. حلم النهضة ان التحدي الحقيقي الذي يجب أن نسعي له في مصر علي الأمد البعيد هو انشاء جامعات وطنية قادرة علي المنافسة عالميا بعد انشاء جامعات بريطانية وألمانية وأمريكية وكندية وروسية وفرنسية وبدء التوجه نحو كليات العلوم والتكنولوجيا بانشاء الجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا "ايجست" EJUST، فالفارق بيننا وبين الصين أو الهند أو سنغافورة أو في التعليم ما زال شاسعا والمفارقة هي أن أصحاب الأموال في بعض دول المنطقة نجحوا في النهوض بمؤسساتهم التعليمية وتقدموا علي أساتذتهم القدامي وذلك لأننا في مصر لا نملك حتي فروعا لجامعات أجنبية يمكن أن تكون بديلا قريبا للجامعات الكبري في الخارج.. والحل بالنسبة لمصر في الوقت الحالي هو في وجود شراكات مع جامعات كبري فاذا لم تتوفر لديك الموارد الفكرية عليك أن تستقطبها إلي بلدك.. هكذا يؤمن ويلدافسكي مشيرا إلي تجربة سنغافورة التي تتجاوز طموحاتها العلمية المجال الاقليمي لأنها ترغب في أن تصبح قبلة أكاديمية دولية. لكن هذا التحدي يتطلب توفير الموارد اللازمة لانجاح هذا المشروع التعليمي الكبير، وقد أنفقت الصين علي سبيل المثال مليارات الدولارات علي منظومتها التعليمية خلال العقدين الماضيين ولا مجال هنا للمقارنة وان كان لا بد النظر الي تجارب الآخرين لكي نستفيد ونعرف ما الذي يتناسب مع وضعنا وما الذي لا يناسبه. وحتي نصل لمرحلة نستطيع فيها تخصيص ميزانيات ضخمة لتطوير التعليم، فانه يجب علي الأقل في المرحلة الحالية تحسين التواصل مع الجامعات الأجنبية الكبري والاستفادة من هذا التواصل في تطوير جودة التعليم المصري وبالطبع يندرج تحت هذه الخطوة التعاون مع العلماء المصريين في الخارج وذلك كخطوة أولي نحو الهدف الأكبر.. وهو انشاء جامعات مصرية قادرة علي المنافسة دوليا وتكون القاهرة قبلة طالبي العلم في مجال أو تخصص بعينه وان كان ذلك لا يعني اهمال بقية التخصصات، وان كانت الهند قبلة التكنولوجيا في العالم فلماذا لا تكون مصر قبلة الحرف التراثية أو قبلة الزراعة أو حتي قبلة صناعة القطن علي سبيل المثال؟