برحيل أسامة أنور عكاشة فقدت الثقافة المصرية المعاصرة رمزاً جميلا جليلا من رموزها المضيئة قدم عبر ثلث قرن روائع لا تنسي في ساحة الدراما التليفزيونية فضلا عن إنجازات روائية وقصصية ومسرحية وسينمائية وصحفية. من محصلة هذا العطاء الغزير المتنوع المتميز استطاع الكاتب الكبير الموهوب أن يؤثر في الواقع ويعيد إنتاجه مخلصا لقضاياه وتفاعلاته وهمومه حريصا علي الاشتباك معه باحثا عن العلاج الناجع لأمراضه وعلله. عالج أسامة أخطر وأدق القضايا في تاريخنا الحديث والمعاصر سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وفنيا واقتحم برؤيته الثاقبة شتي أنواع الصراعات والتناقضات وخاض عديدا من المعارك الطاحنة ضد الذين تيشبثون بالماضي قريبه وبعيده في تعصب بغيض أعمي يخاصم إيقاع الحياة المتجددة ويرفض مواكبة الحديث المتغير. دافع أسامة في أعماله عن الحق والخير والجمال وراود حلم العدالة التي تنتصر لعظمة الإنسان وجلاله وأدان القبح والابتذال والفساد. بقدر شجاعته وجرأته لم يكن من المصابين بداء الزعيق والمباشرة والخطاب الفج فقد أدرك منذ البدء أن رسالة الفن لن توثر بمعزل عن احترام آليات البناء الفني وقواعده وركائزه. نقلة نوعية يذكر لأسامة أنه صاحب «نقلة نوعية» في تاريخ الدراما التليفزيونية ذلك النمط الإبداعي الجديد الذي بدأ مع ميلاد الإرسال التليفزيوني في مصر واستمر عبر نصف قرن من خلال عشرات الكتاب والمبدعين. صحيح أن أسامة ليس أول من كتب الدراما التليفزيونية ولا يمكن القول بغياب الأعمال الجيدة المتميزة قبله كما أن إبداعاته لا تحتل مكانة واحدة من حيث الإتقان والشعبية لكن الصحيح أيضا أنه رائد ذو بصمة ويكمن ذلك في عاملين: الأول هو القدرة غير المسبوقة علي خلق عالم متكامل منسوب إليه فهو صاحب أسلوب مميز ومولع بهموم وقضايا نعرفه بها وصاحب رؤية واضحة المعالم علي المستويين الفني والموضوعي. العامل الثاني يتمثل في حقيقية أن أسامة هو أول وأهم من جعلوا العاديين من الناس يسألون قبل بداية العمل الذي سيعرض عليهم عن اسم مؤلفه ولا عن أسماء النجوم. لقد أصبح اسم أسامة أنور عكاشة دليلا علي الجودة وضمانا لمشاهدة عمل جاد متميز ممتع وهو ما يمثل طفرة كبيرة لا ينبغي الاستهانة بها. الريادة الحقيقية لأسامة تقترن بالنقلة النوعية التي قام بها، وبفضله تحول المسلسل التليفيزوني إلي نص يستحق الاهتمام فلا يؤخذ من عمل أدبي منشور ولا يقنع المشاهدون بمشاعر التسلية والمتعة غير الفكرية ولأنه يقدم نصا ناضجا متماسكا فإن شخوصه يتحولون سريعا إلي جزء من نسيج الحياة الاجتماعية، ومن الذي لا يعرف العمدة سليمان غانم والباشا سليم البدري والمعلمة فضة والأسطي حسن أرابيسك والمصلح الرومانسي الحالم أبوالعلا البشري؟ هؤلاء جميعا من أصدقاء المشاهد ومعارفه وثمة علاقة تربطة بهم وتدفعه إلي التعلق بتواريخهم ومصائرهم. أسامة مبدع ناجح علي المستويين الفني والشعبي وهو إنجاز خطير يتجاوز به الازدواجية القديمة التي تقول بحتمية الفصل بينهما وتحمل الشعب مسئولية فشل الأعمال الجيدة والراقية لأنه شعب محدود الوعي! سر التألق يقدم أسامة فنا جيداً يفهم ويحظي بالشعبية وعلي المروجين للازدواجية القديمة أن يبحثوا عن تفسير جديد لفشلهم وسيكدون ويكدحون كثيرا ليصلوا إلي مقولة بسيطة ونتيجة منطقية وهي أن فشل أعمالهم جماهيريا مردود في المقام الأول إلي الفشل الفني! تمايز وشعبية أسامة أنور عكاشة يمكن أن ترد إلي الأسباب التالية بتسلسلها: أولا: أنه كاتب ذو مهارة فنية عالية فهو يمتلك أدوات الإبداع ويسيطر عليها. ثانيا: أن هذه المهارة موظفة في التعبير عن قضايا الواقع ومواجهتها ولا في تزييفها والالتفاف حولها. ثالثا: أن المواجهة المنشودة لا تعتمد علي الدعاية المنبرية والهتاف الفج والوصيه الحماسي فلابد من «تفنين» المعالجة. إن الوعي الموضوعي لا يخلق فنا جماهيريا جيدا والمهارة الفنية وحدها لا تكفي. ما أهم المفردات الفنية والموضوعية التي يتميز بها عالم أسامة أنور عكاشة؟ من الناحية الفنية يمكن رصد مجموعة من الملامح والمعالم الراسخة. يتميز البناء الدرامي عند أسامة بالتصاعد الحي المقنع المدروس الذي لا يخلو من التشويق لكنه ينجو من الابتذال والإثارة الفجة. إن بناءه مركب وليس مقعدا ديناميكي حي متوهج وليس استاتيكيا جامدا آسنا. يتميز بناء الشخوص بالعناية الفائقة والدقة والحرص علي ترسيخ الملامح الإنسانية الحقيقية بحيث يراهن كل من يشاهد أعماله أنه يعرف هذه الشخصية أو تلك لأنهم يعيشون بيننا. أسامة من المبدعين الذين يجلون الإنسان عن أن يكون من أصحاب اللون الواحد لأنه يختار شخوصه من الواقع ولا يلتقطهم عشوائيا والفارق بين الاختيار والالتقاط هو الفارق بين دفء الإبداع الإنساني وابتذالية من يدعون الواقعية ويشوهون جلال الكلمة بتخبطهم. إن أبطال أسامة ليسوا أبواقا للتعبير عن أفكار ومواقف سابقة التجهيز بل إنهم كائنات من لحم ودم ولذلك يمزجون بين الخير والشر ويبتعدون عن السطحية والتفاهة. لغة الحوار عند أسامة راقية حساسة متوافقة مع طبيعة الشخصية ومستواها الاجتماعي والثقافي لا تنتسب إلي الواقع بترديد المسيء والمسف من المفردات ولا تفهم الثقافة والجدية علي أنهما اللجوء إلي الكلمات القاموسية الصعبة والتكوينات اللغوية مستعصية الفهم ولأن اللغة لا تدعي الواقعية ولا تتصنع الثقافة الرفيعة بل تمارسها فإن لغة المبدع الكبير واقعية ومثقفة بالفعل. اللغة عنده ليست معني يتم توصيله بل هي جزء أصيل من البناء الفني وعنصر أصيل في البناء الموضوعي، إنها لغة تكثيف لا توصيل والذين يتأملون أعماله وبخاصة عصفور النار يلاحظون أهمية الحوار علي مستوي الكلمة الواحدة أو الجملة القصيرة وصولا إلي المشهد الكامل. عند أسامة يظهر التوافق بين الخاص والعام في تشكيل العمل. القضية المحورية لا تلهية عن الاهتمام بالجزئيات الجانبية والتفاصيل الفرعية لكنه لا يفرق في الخاص والجزئي بل يوظفهما في الإطار الكلي ولذلك فإن أعماله تبقي في الأذهان مرتبطة بالخاص والعام معا. تتجلي براعة أسامة في تصوير المكان وتوظيفه والمكان بطل مشترك في جميع أعماله. المكان الأكبر يتمثل في مصر الوعاء المكاني الأساسي وحضور مصر كمكان قوي في أعماله. المستوي الثاني للمكان يتمثل في الحي أو المدينة والقرية حيث تدور الأحداث ويسعي أسامة دائما إلي إظهار ملامح المكان وخصوصيته وتأثيره علي البنية العامة للدراما التي يقدمها وهو ما نجده في المشربية وعصفور النار والشهد والدموع فضلا عن عمله الأشهر والأهم ليالي الحلمية، أما المستوي الثالث للمكان فيتجسد في أسلوب بناء كل مشهد علي حدة بحيث يكون للمكان وجوده المؤثر ورائحته القوية ووظيفته في تطور الحدث ووعي الشخصيات، لا يقتصر الأمر علي حوار يدور بين مجموعة من الشخوص في زمن ما حول قضية بعينها فالمكان وهو شديد الارتباط عند أسامة بالزمن بالغ التأثير في الحوار والقضية المثارة معا. غلاف من المرح يحيط بعالم أسامة أنور عكاشة ويمثل سمة مهمة في البناء الفني عنده. إن الوهم القائل بترادف الجدية والتجهم ليس صحيحا والفكاهة عند أسامة تنبع من داخل الحدث وليست مقحمة عليه، قد يضحك المشاهد لبعض أعماله دون فرصة لالتقاط الأنفاس لكنه ضحك لا يسحبه بعيدا عن العالم الذي يقدمه ويكشف مسلسل أنا وانت وبابا في المشمش عن الطاقات الكوميدية الهائلة لأسامة لكن الهم الذي يواجهه الكاتب الكوميدي بشكل عام يتمثل في التراث السلبي الطويل الذي شوه مفهوم الكوميديا وجعلها مرتبطة عند كثير من المتلقين بأنماط من الضحك غريبة عن المفهوم الصحيح للكلمة ولعل مقارنة سريعة بين النجاح المدوي الذي حققته ليالي الحلمية والنجاح البارد نسبيا لمسلسل أنا وانت وبابا في المشمش يبرهن علي صعوبة الكوميديا وبخاصة تلك التي يكتبها أسامة حيث يقترب الأمر من الكوميديا السوداء. قضايا وهموم من خلال هذه السمات والملامح الفنية يعالج أسامة قضايا وهموما موضوعية جادة: الصراع الطبقي، التاريخ في إطاره السياسي، الحب والمرأة، الوحدة الوطنية. في عالم أسامة أنور عكاشة اهتمام ملحوظ بالصراع الطبقي في المجتمع المصري الأغلب الأعم من أبطاله مهمومون بالصعود الطبقي أو التكيف في ظل حراك طبقي يعرف التماسك والوضوح أحيانا ويميل إلي الهلامية والارتباك في أحيان أخري، لا يقتصر الأمر علي رصد الهموم بل يمتد أيضا إلي البحث المضني عن انعكاسات الصراع الطبقي علي مجمل الحياة: التأثير في الأسرة الواحدة المنقسمة إلي أغنياء وفقراء، التأثير في الحب والعواطف. من الهم الطبقي ينبثق الاهتمام بالتاريخ والسياسة ويبدو أسامة شديد الولع بالتاريخ الذي هو عنده كما يتضح من استقراء أعماله قرين الوعي، أنت واع قدر معرفتك بالتاريخ وأنت واع قدر قدرتك علي تشكيل التاريخ وصياغته، التاريخ ليس هو الأمس فقط بل هو اليوم أيضا والتاريخ لا يصنعه الزعماء والقادة وحدهم فالبطولة لصغار وبسطاء الناس أولئك الذين لا تذكر كتب التاريخ أسماءهم وبهذا المفهوم فإن أبطال أسامة في أعماله الواقعية أبطال تاريخيون يمارسون تاريخهم بعيدا عن الكلمات الكبيرة والمواقف المثيرة. لابد أن تطل السياسة هنا ففي عالم أسامة يظهر الشيوعيون والناصريون والوفديون والإرهابيون والانتهازيون ولعل التيار الوحيد الذي مارس دورا في التاريخ المصري دون نظر إلي جوانبه السلبية المتنوعة ومع ذلك لم يمثل عند أسامة هم الإخوان المسلمون ولا شك أن الأمر مردود في المقام الأول إلي ظروف الرقابة وما كانت تفرضه من قيود. والحب عند أسامة مرادف للحياة وهو مطلب إنساني ملح لا يمكن الاستغناء عنه، العلاقة بين الرجل والمرأة تحظي باهتمام كبير في الأعمال التليفزيونية للمبدع الكبير ولعل ذروة التعبير الناضج هي ما نجده في الحب وأشياء أخري حيث الحب المهزوم في إطار الأزمة الاجتماعية الخانقة، القانون الذي يحكم الحب عند أسامة هو السعي لا التحقق، ذلك أن الحب ظاهرة لها شقها الاجتماعي الذي يعكس بالضرورة طبيعة المجتمع ويتأثر بها. عند أسامة لن نجد الرومانسية الفجة وتسود الواقعية لتجسيد الحب المأزوم المهزوم. المريض وحده هو الذي يتكلم عن مرضه أما الصحيح المعافي فيندر أن يتحدث عن صحته وبحكم الإطار التاريخي الذي تدور فيه أعمال أسامة فإنه يجسد الوحدة الوطنية ولا يدافع عنها، حيث لا أزمة يبدو الدفاع نوعا من العبث، في الشهد والدموع أسرة مسيحية لا نعرفها ولا نميزها إلا بأسماء أفرادها وعبر بعض المفردات التي تكشف عن العقيدة الدينية لن يتأثر البناء كثيراً إذا كانت أسرة مسلمة والأمر هكذا في ظل الاستقرار الاجتماعي الشائع الذي يرفض التعصب ويدينه تنتفي الفروق فلا نستطيع التمييز بين المسلم والمسيحي بعيداً عن طقوس العبادة. إن جميع الهموم الموضوعية التي يتعرض لها عالم أسامة أنور عكاشة تقود في النهاية إلي رؤيته الإنسانية العامة التي تكشف عن التوق الإنساني إلي حياة يظلها العدل ويملؤها الجمال ويسودها الخير والسلام. تشابه وامتداد أسامة أنور عكاشة امتداد خصب لعوالم عديدة وثمة تأثير واضح لكاتبين كبيرين يمثل الوعي بتأثيرهما مدخلا مهما لفهم عالم أسامة وسر عذوبته. الأول هو أنطون تشيكوف بإنسانيته المتدفقة ورقته الشجنية وهمساته التي تتسلل إلي قلب كل قارئ له «من الممكن أن تكون حياتكم أفضل أيها السادة» بعدائه الأصيل للتفاهة والادعاء والابتذال وبما يميز عالمه كله من ابتسامات صادرة عن قلب مهموم بالإنسان، بل إنه منتسب في جامعته العريقة، وتتبدي ظلال تشيكوف كأوضح ما يكون في المعالجة الدافئة لأسامة في عديد من أعماله وبخاصة عابر سبيل ورحلة السيد أبوالعلا البشري ذلك أن تأثير تشيكوف في هذين العملين - اللغة والشخصيات - بالغ الوضوح. الثاني هو نجيب محفوظ الكاتب العبقري الذي يحول قاهرة المعز إلي عصير نشربه فلا نرتوي، نجيب الذي يغوص في أعمق أعماقه الحياة اليومية فيحول العادي والمألوف والمبتذل إلي عالم أسطوري باهر وصادق وحقيقي، نجيب ببنائه المحكم وعينه الراصدة المنتمية الواعية. الكاتب الموهوب - بل وكل كاتب - لا يمكن أن يتأثر بمبدع واحد أو عدد محدود من المبدعين فهو يتفاعل مع الكثيرين ويتواصل مع مدارسهم وتوجهاتهم المتباينة لكن ما نعنيه هنا هو التأثير الأساسي الذي يسهم في تشكيل وصياغة العالم الفني والرؤية الموضوعية ولعل تأثير نجيب محفوظ تحديداً في حاجة إلي دراسة تفصيلية وبخاصة في مجال المقارنة بين الثلاثية والعملين الشامخين الشهد والدموع وليالي الحلمية. الأدب التليفزيوني ينتمي أسامة أنور عكاشة إلي جيل من الأدباء الذين نعرفهم ونقرأ لهم أكثر مما نعرف أسامة ونقرأ له، الجيل الذي يضم محمد البساطي وعبدالحكيم قاسم وعلاء الديب ومجيد طوبيا وجمال الغيطاني وآخرين، تأثير هؤلاء مع كامل التقدير والاحترام لإبداعهم المتميز لا يتجاوز دائرة قارئيهم الذين لا يزيد عددهم علي عدة آلاف، الأدب المكتوب محدود التأثير لأنه ضئيل التوزيع وإذا استبعدنا الجاهلين بالقراءة والكتابة والمستخفين بالقراءة والكتابة لوجدنا أن الروائي والقصصي يكتب لقلة قليلة وأغلبية هذه القلة تمارس الإبداع بشكل أو آخر! أما تلك الشاشة الصغيرة فيتسع صدرها للجميع دون تمييز بين مثقف وجاهل أو بين قروي وحضري ومن هذا الاتساع تولد العيوب والمزايا، ستصل الرسالة إلي عدد غير محدود من البشر، لكن ما الرسالة؟! هنا يتميز أسامة ويكتسب مكانته الفريدة في تاريخ الثقافة المصرية فقد استغل القاعدة الجماهيرية العريضة ليقدم رسالة سامية مخلصة تعيد إنتاج الحياة وتكشف عن جوانب قد لا يراها من يعايشونها ويحتكون بها كل يوم. الحديث عن الأدب التليفزيوني لا يعني نفيا للأدب المكتوب فهو جنس جديد يختلف في آلياته وقواعده ويتوجه إلي الملايين ممن ينصرفون عن قراءة رواية ناجحة لكنهم يقبلون عليها إذا عرضت في السينما والتليفزيون. تزدحم ساحة الكتابة الدرامية التليفزيونية بمواهب قليلة جادة وأضعاف أضعافهم من الأدعياد الذين يكتبون لملء فراغ عشرات الفضائيات التي تبحث لاهثته عن مسلسل يباع بأسماء النجوم دون نظر إلي المؤلف. أسامة أنور عكاشة نقطة تحول في تاريخ الكتابة التليفزيونية وفي الأعوام الثلاثين الأخيرة أحدث انقلابا جذريا في مفاهيم الكتابة. ما أعظم احتياجنا في لحظات الوداع إلي أن نعي حقيقية أنه حي بروائعة المسكونة بالصدق والالتزام والإخلاص في التعبير عن الوطن الذي يذوب فيه حبا ويعود إلي ترابه راضيا بما قدم وأضاف.
