صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب «التراث والتجديد» للدكتور حسن حنفى عام 1980 عن المركز العربى للبحث والنشر، وطبعته الثانية فى 1981 عن دار التنوير ببيروت، والنسخة التى نقرأ منها الآن هى الطبعة الثالثة من الكتاب، التى صدرت فى 1987 عن مكتبة الأنجلو المصرية، «ومازال الكتاب يثير ردود أفعال عديدة»، هكذا كتب المفكر المثير للجدل فى مقدمة كتابه، وطوال تلك السنوات صدرت عدة مقالات لمراجعة أفكار حنفى الواردة فى كتابه هذا، من قبل علماء ونقاد كبار كان أبرزهم محمود أمين العالم وفؤاد زكريا، فضلا عن دراستين غربيتين، وفى المقابل نال الكتاب كذلك نصيبا وافرا من الاعتراضات التى أخذت شكل المؤلفات. وكان الاعتراض الرئيسى فى أغلب هذه الكتابات يستند إلى ما رآه هؤلاء من تجرؤ حنفى على القرآن والسنة واعتبارهما مجرد وصف للواقع لا يرقى للتقديس، ورفعه لشأن سلطة العقل على سلطة النص، ونقده لفكر الإسلاميين بأنهم إذا أرادو التغيير يبدأون بالمحرمات وقوانين العقوبات، لكن من الواضح هذه الأيام أن الكتاب مايزال يثبت - بصورة أخرى - قدرته على الاحتفاظ بإثارته للأذهان، فثمة وجه آخر للاعتراض هذه المرة على الكتاب. نقول «إثارة» تعليقا على الخطوة التى انتهجها مؤخرا مجمع البحوث الإسلامية بالتوصية بمصادرة الكتاب بعد مرور ثلاثين عاما على صدوره، وذلك بناء على الدعوى المرفوعة من الشيخ يوسف البدرى والمحامى ثروت الخرباوى ضد وزير الثقافة وشيخ الأزهر للمطالبة بمنع نشر كتب سيد القمنى وحسن حنفى. وقد جاء فى تقرير المجمع أن كتاب « التراث والتجديد» يهدف إلى الانتصار لليسار الشيوعى والنيل من الإسلام وعدم ملاءمة الدعوة الإسلامية للعصر الحديث، وأن «هدف الكاتب هو مناهضة السلطة السياسية والدعوة لحزبه السياسي»، مسوغ المصادرة غريب ومستفز للبحث، فلأول مرة تقريبا تضطلع جهة تابعة للأزهر بمهام ليست دينية، أو بمعنى أدق يكون حكمها على مصادرة كتاب ما لسبب سياسي. حاولنا من خلال القراءة التالية للنسخة التى توفرت لنا بالصدفة، تلخيص أبرز ما أتى به الكاتب فى مؤلفه، لكن يبقى السؤال عالقا: لماذا هذا الكتاب الآن؟ يحاول المؤلف إفهامنا بشتى الطرق، ويعود ويكرر ليثبت أن التراث ليس قيمة فى حد ذاته، أو كيانا مستقلا بذاته، بل نظرية للعمل، «مجموعة من التفاسير يعطيها كل جيل بناء على متطلباته»، ومن بين الأمثلة العملية التى يسوقها أن العمل السياسى يتعثر فى البلاد النامية لأنه لم يسبقه ثورة إنسانية هى شرط له، فتفشل الجهود لقيام أحزاب تقدمية وتنظيمات شعبية تملأ الفراغ بين السلطة والجماهير، لأن «النهضة سابقة على التنمية وشرط لها، والإصلاح سابق على النهضة وشرط لها، والقفز إلى التنمية هو تحقيق لمظاهر التقدم دون مضمونه وشرطه». كما أن التراث ليس مخزونا ماديا له استقلال عن الواقع»، بل هو مخزون نفسى عند الجماهير، إلا أن أغلب الحديث عن إحياء التراث وبعث التراث ونشر التراث وتحقيق التراث، يتم على مستواه الأولى «المادي» فقط، وكأن البعث والإحياء والنشر يعنى فقط إعادة طبع القديم طبعات عدة، فإذا قيل أن السبب فى الهزيمة هو البعد عن الكتاب والسنة، أعيد نشر الكتاب والسنة فى طبعات مذهبة منمقة، و«يتبادلها رؤساء الدول هدايا فيما بينهم، وترسلها المؤتمرات والجمعيات الإسلامية إلى الدول الإسلامية غير الناطقة بالعربية لنشر الوعى الإسلامي، ونكون جميعا كالحمار يحمل أسفارا». يشرح المؤلف بشيء من التفصيل: «إننا نلحق عقولنا بالنصوص، ونقع فى التأويلات، ونقطع الصلة بين العقل والتحليل المباشر للواقع باعتباره مصدرا للنص، ونقبل الإمام بالتعيين، ضعفاء أو خائفين أو منافقين، وننتقى من التراث ما يدعم هذا الوضع». من بين أفكار الكتاب كذلك أن الاعتزاز بالماضى انصياع للعواطف والنعرة القومية، واستسلام للنزعة الخطابية الحماسية التى يغيب فيها العقل ويسودها الانفعال، وهى إضافة إلى المزايدة على الدين، تعتبر ملخص المبادئ الهدامة والمتخاذلة التى تقوم عليها المناهج فى الدراسات الإسلامية من وجهة نظر حنفي. يختم حسن حنفى رؤيته عن توابع وأزمات التغيير فى واقعنا المعاصر، بهجوم حاد على علوم الحكمة وعلم أصول الدين وعلم الفقه وعلم التوحيد وعلوم التشريع، وعلى القيم الصوفية التى يراها حنفى سلبية، لأنها دفاع العاجز الضعيف، الذى لا يرى فضائله إلا فى أنه صاحب الحق الضائع، وأخيرا يفند هجومه على الدولة الإسلامية، حيث يرى أنه إذا ما تم تطبيق الإسلام بإقامة الدولة الإسلامية، فأول ما يتم تطبيقه هو العقوبات، وكأن العقوبة هى الغاية وليست الوسيلة، ويطلب من الرعية تنفيذ واجباتهم قبل منحهم حقوقهم، كما تسود المحرمات، وكأن الإسلام هو أساسا دولة المحرمات، ويصب أولو الأمر جل اهتمامهم على قانون الأحوال الشخصية، ويتركون النظام الاقتصادى السياسى إلى هوى الحاكم، باختصار تتحول الدولة الإسلامية إلى أسرة، والمسلم هو رب الأسرة، وليس المواطن الذى يعيش فى دولة. نستخلص من هذا الكتاب أن تجديد التراث ضرورة ملحة ومطلب ثورى وقضية وطنية، وأولوية بالنسبة للبلاد النامية، ووسيلة للبحث عن الهوية وليس غاية للدفاع عن عقد قديمة موروثة، «تجديد التراث هو مهمة الثوريين» كما يرى حسن حنفي، أو مهمة سياسية كما يشرح، ويقول فى موضع آخر: «إن تغيير الواقع بالوثوب على السلطة دون انتظار لتجنيد الجماهير - مصدر السلطة - أقرب إلى محاولات الإنقلابات منها إلى تغيير اجتماعى بالفعل»، وتبدو هنا نقطة متناقضة بحسب معارضى حنفى فى هذا الكتاب، وهى أنه رغم استخدامه للفظة «ثورة»، إلا أنه يهادن السلطة القائمة ويطمئنها بأنه لا يقصد الإنقلاب عليها. أما المثير للسخرية والمفارقة بالفعل فهو أن نفس الكتاب ونفس تلك الأفكار تثير الاعتراض ونقيضه تماما.