الموضوع أبعد من بيروت. إنه موضوع لبنان والتوازن داخل لبنان حيث المسلم والمسيحي في حال تعايش يكمل بموجبها كل منهما الآخر، أو هكذا يفترض. من بيروت انطلقت صيغة العيش المشترك ومن بيروت انطلقت الفتنة وادت الي تقسيم المدينة طوال عقد ونصف عقد. ولذلك كان مهما لدي الرئيس الشهيد رفيق الحريري إعادة الحياة الي بيروت كنقطة انطلاق لإعادة الحياة الي لبنان واعادة وضعه علي خريطتي الشرق الأوسط والعالم. ولأنه استطاع ذلك، دفع الثمن غاليا. دفع دمه من أجل لبنان. قليلون يدركون حجم التضحيات التي بذلها رفيق الحريري من أجل بيروت ومن أجل ان تكون نموذجا للعيش المشترك وفق صيغة المناصفة. كان مطلوبا في كل وقت تدمير بيروت وقلب بيروت المتمثل في الوسط التجاري. ولذلك، كانت الحملات المستمرة علي مشروع إعادة البناء والأعمار الذي تولاه رفيق الحريري. كانت بداية هذا المشروع في أواخر العام 1982 كان رفيق الحريري الفرد يردّ وقتذاك علي الحرب الإسرائيلية علي لبنان. بذل رفيق الحريري في العامين 1982 و 1983 كل ما استطاع من اجل اعادة الحياة الي لبنان انطلاقا من العاصمة. كان مهووسًا ببيروت. كان يعرف أن لا حياة ولا مستقبل للبنان من دون استرداد قلب بيروت. قليلون ادركوا معني ما كان يقصده "ابو بهاء". قليلون آمنوا منذ البداية بمشروعه الذي تبين مع الوقت انه المشروع الوحيد القابل للحياة في لبنان وان من دونه لا حياة ولا مستقبل للبنان. كانت العودة الي المشروع مطلع التسعينيات بعد توقيع اتفاق الطائف. ولأن المتضررين كانوا يعرفون اهمية بيروت وما تمثله للبنان والمنطقة، شنوا حروبهم علي رفيق الحريري. صمد المشروع وصمد رفيق الحريري الذي لم يدرك كثيرون أهميته، للأسف الشديد، إلا بعد اغتياله مع رفاقه في الرابع عشر من فبراير 2005 لكن رفيق الحريري بقي في كل حجر من بيروت. انه رمز للبناء والتنمية. وبقي حلم رفيق الحريري حيا بفضل سعد الدين رفيق الحريري الذي أدرك باكرا أهمية ما تحقق في بيروت وتابع مشروع البناء والأعمار والتنمية انطلاقا من بيروت وكل ما تمثله المدينة علي صعيد بناء الإنسان اللبناني وتثقيفه واعادة الحياة الي الطبقة المتوسطة اللبنانية التي من دونها لا مستقبل للبنان لأبناء هذا الوطن الصغير. ستكون الانتخابات البلدية في بيروت الأحد المقبل دليلا علي تمسك اللبنانيين بالصيغة القائمة علي المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. ستكون دليلا علي وجود وعي عميق لخطورة المؤامرة التي تستهدف العاصمة. كان مطلوبا بكل بساطة العودة الي خطوط التماس وتقسيم العاصمة مذهبيا وطائفيا بما يسيء الي سمعتها ودورها الطبيعي كحاضنة للبنانيين جميعا من دون تفريق بين مواطن وآخر، بين فقير وغني، بين مسلم ومسيحي... في النهاية، بيروت ليست شارعا ومقهي فحسب، إنها ايضا الحرية والثقافة والانفتاح علي العالم والقبول بالآخر. إنها الكنيسة الي جانب الجامع، والجامعة والمدرسة والمسرح والمستشفي والصحيفة والمجلة والمعرض الفني... والمكان الذي يرتاح فيه الأشقاء العرب والذي يطمح الأوروبيون الي زيارته. ولكن الأهم من ذلك ان بيروت تمثل قلب لبنان. متي كان القلب سليما، في الإمكان اصلاح الأعطال في الأعضاء الأخري من الجسد. ولذلك، ليس صدفة ان تكون بيروت مستهدفة باستمرار وان يكون اول ما فعله الذين أرادوا الانتقام من بيروت الاعتصام في وسطها وتعطيل الحياة فيها طوال اشهر من العام 2007 وصولا الي مايو 2008 . وليس صدفة ان يتوج الاعتصام بغزوة بيروت في السابع والثامن من مايو 2008 التي استهدفت إثارة الغرائز المذهبية. وليس صدفة ان تسبق الانتخابات البلدية محاولات لضرب صيغة المناصفة والغاء نتائج انتخابات السابع من يونيو 2009 . من خلال الانتخابات البلدية، اظهرت بيروت صمودها. اظهرت انها مدينة عصية علي الغرائز المذهبية وعلي كل من يريد إثارتها ان عبر المطالبة بتقسيم المدينة او عبر الحديث عن فرض ممثلين لما يسمّي "المعارضة السنية" علي بيروت. لو كانت بيروت مع هذه المعارضة والقيمين عليها، لما كانت حاجة الي "غزوة" استهدفت القضاء علي ثقافة الحياة فيها... بيروت صامدة لأنها تؤمن بثقافة الحياة وترفض السلاح والميليشيات المسلحة التي لا همّ لها سوي نشر ثقافة الموت. بيروت قدمت الشهداء الواحد تلو الآخر من اجل تكريس ثقافة الحياة. من أجل حماية هذه الثقافة التي تشكل رابطا بين لبنان والعالم الحر وبين اللبنانيين انفسهم، سقط هذا العدد الكبير من الشهداء، من بينهم سمير قصير، صاحب كتاب بيروت، وجبران تويني الذي لعب عن طريق "النهار" دورا أساسيا في استنهاض شباب لبنان والدفع في اتجاه انتفاضة الرابع عشر من مارس 2005 دفع اللبنانيون غاليا ثمن الحرية المستعادة، ولو جزئيا، وثمن الدفاع عن بيروت. لم يضحوا بالشرفاء من امثال رفيق الحريري وباسل فليحان ووليد عيدو من اجل ان يعم الظلم والظلام والظلامية بيروت. كان لكل من الشهداء الذين سقطوا دور في الدفاع عن بيروت. كان هناك دور لجورج حاوي ودور لبيار امين الجميل ودور لأنطوان غانم. بيروت كانت محور نضالات اللبنانيين الأحرار الذين تصدوا لمن اراد قهر المدينة وقهر لبنان. هؤلاء الشرفاء ما زالوا يقاومون. من حيث هم طردوا من بيروت اولئك الذين ارادوا الاعتداء علي مدينتهم. من حيث هم، شكلوا لائحة بيروت في الانتخابات البلدية. ما نراه حاليا، بعد انسحاب "حزب الله" من معركة الانتخابات البلدية في بيروت، ليس انتصارا للمدينة فحسب، انه انتصار لمشروع رفيق الحريري ولثقافة الحياة. كل ما ارادت بيروت قوله، مرة اخري، انها وفية لشهدائها وفاءها لثقافة الحياة والمحبة والانفتاح بعيدا عن اي نوع من التزمت والعقد. بيروت وفية لمن اعاد اليها الحياة ولمن جعلها لؤلؤة المتوسط بدل ان تكون مجرد ارض سائبة يسرح فيها الشذاذ وينتشر فيها الدمار والبؤس كما كانت الحال قبل المباشرة بمشروع الاعمار...