واحد من أعلام مدرسة "الاحتفاء بالأسلوب"، صاحب لغة تنويرية تحتفي بذاتها أكثر مما تحتفي بخطابها، فتنقل في إبداعه ما بين فنون الكتابة المختلفة، تكشف أعماله وتشف أكثر مما توضح وتصف، إلياس فركوح، واحد من أبرز الكتاب علي الساحة الأردنية والعربية، الذي أجرت روزاليوسف معه هذا الحوار علي هامش مشاركته في "ملتقي القاهرة للقصة القصيرة": لماذا الإصرار علي كتابة القصة القصيرة في زمن الرواية؟ - نحن نكتب أنفسنا حين نكتب القصة القصيرة، وتجربتي في كتابة القصة القصيرة هي تجربتي وبدرجة من الوعي مع واقعي الموضوعي عبر حياة قصيرة، القصة القصيرة التي أكتبها هي قصتي أنا القصيرة مع واقعي، قصة الارتطام غير المنتهي بأرض الواقع، والتعاطي المر مع جزئياته السالبة، هذا الارتطام الذي يفجر في داخلي رؤي تساعدني علي فهمه، هذا التعاطي الذي يستدعي أحلاما ما كنت لأكتبها لولا صلابة الواقع أصلا، أو صلافته علي نحو أدق فالواقع صلف لأن حريتنا منزوعة منه. هل كتابة القصة تمنحك الحرية التي تبحث عنها؟ - نحن ندلف عميقا إلي حيث تتداخل الأحلام متصدية لبراثن الواقع المصبوغة بدمائنا إلي حيث تتوحش الكوابيس، مرآة محدبة أو مقعرة للفاسد من حياتنا، تبتغي ابتلاع إنسانية الإنسان فينا إلي حيث ينسل الطيب المفجوع إلي الورقة ليسطر عليها أغلي ما يملك، حريته في أن يحلم بحرية يراها واقعا منظورا في هواء العالم الذي يتنفسه، فتجربتي في كتابة القصة القصيرة هي قصتي مع هذه الحرية التي أجربها يوميا علي جلدي .. فيسلخ، هي قصتي مع هذه الحرية التي أجربها دوما مع أوراقي .. فيبرأ الروح أو يكاد، لقد علمتني تجربة القصة القصيرة أنه لا فاصل بينها وبين القصة التي أعيشها في واقعي. ماذا علمتك الكتابة؟ - تعلمت من الكتابة أن حيزها المعترف به لا يساوي في العمق والمساحة الحيز المعترف به لكاتبها، فبإمكان الواحد منا أن يحلم دون أن يخشي مصادرة حلمه، أما في الكتابة فالعيون تراقب وتحاسب وتستنكر وتشطب، يشطبون حلمك لأنهم يرون أن حلمك هو حريتك، ولأنهم يدركون في الوقت نفسه أن حريتك المحلوم بها هي أنت، وتتلخص تجربة الكتابة في ضوء ما سبق، في صراع الكاتب من أجل الاحتفاظ بتوازنه، في سبيل ألا يفقد ارتكازه المبدئي علي أسس أخلاقية سينهار إذا انهارت فيه. هل الكتابة اشتباك أم مقاومة؟ - الكتابة اشتباك الروح مع الضعف والتراخي والترهل، ومقاومة الذات لضعفها وتراخيها وترهلها، وعلي نفس الدرجة مقاومة الذات لكل هذا في واقعها الخارجي الضاغط. لذا يمكن أن أشبه فعل الكتابة بإجراء تطهري مستمر للخلاص من أدران الفساد بشتي تجلياته، من خلال الإخلاص للجوهري في الإنسان، كأنما ضمير الكاتب قد اختزن حكمة السيد المسيح: فَمَاذَا ينْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يقَدِّمُ الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ (متي 26:16) حقا ماذا ينفع الإنسان لو ربح كل التصفيق أو كل الرضي، وخسر فنه "حريته" نتيجة تالية لخسارته نفسه. كيف تري الفرق بين المبدع الذي يجاري السائد والمبدع الذي يرضخ أمام سطوة المحرمات؟ - لا فرق بين إذعان الفنان للذوق السائد طمعا في تصفيق وتبجيل زائفين، وبين إذعانه لسطوة المحرمات في واقع فاسد فرارا إلي مستنقع الأمان، فكلاهما رضوخ وخيانة لجوهره في بعديه الفني والإنساني، فلو كان الظاهر القوي هو مقياس "الحقيقة" بمعني "الحق" لما كانت أمثلة النبل والاستشهاد مبررة في وجودها عبر عروق التاريخ، أو كان التاريخ سجلا تافها يمجد الأقوياء بالسيف دون غيرهم، لأن الأقوياء بالكلمة لا وجود لهم لأن أصحاب الاجتهاد المخالف والمفارق لم يخرجوا إلي العلن ليعلنوا خلافهم مع السائد المهيمن، وليشهروا مفارقتهم للرأي الواحد والوحيد. لماذا إذن التحول إلي كتابة الرواية، ألم تكن القصة القصيرة كافية لاستيعاب حريتك؟ - أنا في الأصل قاص، وكنت قد نشرت أربع مجموعات قصية قبل صدور روايتي الأولي "قامات الزبد" 1987 وتساءلت: لماذا الرواية؟ ولماذا جاءت "القامات" دون أن تكون مسبوقة بوعي كامل، وعندما أطلت التمعن في الرواية الأولي بعد نشرها، شعرت وكأنني كنت خارجها وآخر العارفين بها، وما جاءت هكذا إلا لسببين: الأول: أن طبيعة القصة القصيرة التي أكتبها لا تحتمل ما استطعت تحميله للرواية، والثاني: أن الرواية تضمنتني بكيفية أتاحت للبوح مجالا فسيحا ورحبا شاملا لكل من الخاص والعام، للشخصي والمجتمعي، لليومي العادي وللطارئ الكبير المتحكم بمصير. وكان هذا هو الاكتشاف الأول، أما الاكتشاف الثاني فحدث عندما لاحظت أن طبيعة اللغة التي جبلت عليها قادتني إلي إدراك أنني أنضو عن ذاتي مستورها كلما أمعنت بالكتابة، وبذلك خلصت إلي أن النص يكتب صاحبه بمعني ما، وليس العكس، يكتبه من منطقة نائية فيه لم يكن متنبها إليها، ويدفعه في الآن إلي أن يقوم بقراءة ذاته، أو يجعله يتقدم من المرآة أكثر ليعاين ملامحه هو. حدثنا عن محطات مشروعك الروائي؟ - "قامات الزبد" ليست رواية مفردة، لقد نتجت عن التأمل، واحدة من النقاط التي رسمت لي مشروعا روائيا يرصد تفاصيل جيل وحياته، من خلال حياة ذات تنتمي إليه، ولأن خامة هذه الذات هي أنا. وإذا كانت "قامات الزبد" قد غطت الفترة الممتدة من ظهور حركة المقاومة الفلسطينية وتنظيماتها في الأردن وبيروت، فإن "أعمدة الغبار" التي جاءت بعد تسع سنوات 1996 عملت علي استبطان فكرة السكون أو الموات الممتد من سقوط "تل الزعتر" بيد الانعزال اللبناني عام 1976 وانتهاء بالحصار الإسرائيلي لبيروت ودخولها كأول عاصمة عربية لأول مرة عام 1982 وذلك بالعبور في يوميات زيارة السادات للقدس ووقائع الحرب العراقية الإيرانية. أما "أرض اليمبوس" 2007 فتغطي أكثر من محطة زمنية، لكنها تبدأ من كارثة 1948 مرورا بوحدة الضفتين الغربية والشرقية ضمن المملكة الأردنية الهاشمية، ثم نكسة 1967 هذه المحطات الزمنية والحرب العراقية الإيرانية، ثم الحرب الدولية علي العراق. كتاباتك في القصة والرواية تشي بشعرية ما، ما مصدرها؟ - أوافقك علي ذلك لكني أتساءل أهي شعرية اللغة، أم المخاتلة الشعرية للحالات التي يتكشف عنها النص؟ فالمخاتلة وجه من وجوه انحراف الصورة عن مألوفها، وتلكم واحدة من سمات الشعر، أن نري الأشياء علي غير ما اعتادت أبصارنا أن تراها عليه، غير أن هناك حقا ما يشغلني بخصوص اللغة، إذ كيف صار لي، وإن امتلكت في داخلي إيقاعها الشعري، بينما تحديدات لغة الفلسفة تتخللها ما تزال، وهي لغة تلزمني بأن يكون بنائي متسقا ومتناميا، ومنطقيا لا تشوبه زلة تفكير أو فساد خطوة.