لبلبة وأمها.. جسدان وروح واحدة وقد خلق ذلك نوعا من الترابط بينهما خاصة في ظل عزوف لبلبة عن الزواج وعدم انجابها، لذلك كانت أمها هي انيسها وجليسها وعقلها عندما تفكر وقلبها الذي ينبض بالحياة، وقد ازدادت تلك المشاعر لأنها الابنة الوحيدة التي صاحبت أمها في آخر سنوات عمرها، فشقيق لبلبة طبيب يعيش في أمريكا ولم يتمكن من الحضور ليودع أمه، مما جعل لبلبة تتحمل بدايات الصدمة ونهاياتها وطوال مسيرة الجنازة التي خرجت من كنيسة الأرمن في رمسيس إلي المدافن في مصر الجديدة، وذاكرة لبلبة تعمل بمنتهي القسوة لاستعادة سنوات رحلتها مع أمها لحظة بلحظة فهي كما تقول: «تعودت العيش تحت جناح والدتها منذ أن كان عمرها خمس سنوات وطوال عمرها وهي تعيش آمنه في ظل هذه الحماية حتي عندما تزوجت من حسن يوسف وجدت أنها قد انتقلت إلي اطار أوسع من الجو العائلي لكنه يشكل حصارا أكبر، وعبثا حاولت لبلبة أن تهرب من قدرها لأنها ستواجه بوفاة أمها مصيرا مجهولا، وعالما غريبا، لا تعرف كيف تكمل مشوارها علي أرضه حتي أنها لم تستطع العودة إلي بيتها في الدقي لأن صوت أمها لايزال يرن صداه في أذينها، وكذلك دقات عصاتها علي الأرض وضحكتها عندما تفرح ونبرات صوتها الغاضب في ساعات القلق إلي آخر ما يتعلق بها من أشياء. لبلبة كانت تنام مع والدتها في حجرة واحدة بسريرين حتي تظل عيناها دائما متعلقة بها تسهر علي راحتها وتنهي عملها مبكرا لكي تعود إليها، ومع كل عمل يعرض علي لبلبة تفكر أولا في أمها سواء كان العمل فيلما أو حتي لجنة تحكيم تشارك فيها لأنها لم تكن تقبل السفر لمدة طويلة بعيدا عن والدتها، كان زملاء لبلبة في الوسط الفني يقولون إنها «بتتلكك» بامها ولم يكن يدرك أحد أن قلب لبلبة يتمزق بسبب مرض والدتها، كانت تريد أن تخبئها من كل مكروه وتبعدها عن الألم، فربما كان الله يسهل لها الأرزاق لأنها بارة بامها. تعرضت لبلبة لاختبار صعب خلال طقوس الدفن، فما أن وقف مطران الكنيسة ليتلو تراتيل الوداع حتي فوجئت به يطلب منها أن تحمل قبضة رمل وتلقي بها فوق قبر أمها، إلا أن يد لبلبة قد توقفت وأبت أن تضع التراب علي القبر، وعذبها أن تقوم بهذا الفعل فتطوعت ابنة اختها للقيام بذلك، إلا أن المطران رفض وقال إن طقوس الوداع يجب أن يقوم به أقرب الناس للمتوفاة، فحملت في يدها الرمل وضربوا يدها دون أن تدري حتي تبعثر الرمل علي قبر أمها، وعندما سألت لبلبة عن الحكمة من وراء هذا الأمر قالت: «إنه تعبير عن الرضا بالقضاء والقدر، فقد خلق الناس من تراب وإليه يعودون»، لقد كان هذا الطقس صعبا علي قلب لبلبة لكنها قالت «ازاي ارمي تراب علي أمي». عقل وقلب لبلبة كانا يحترقان من الألم، وهو الأمر الذي شعرت به إلهام شاهين، فلم تتركها بعد الجنازة، وأصرت علي أن تأخذها معها إلي بيتها، وظلت بجوارها تهدئ من حزنها، ولم تنم إلهام شاهين أيضا علي الرغم أنها ستصحو مبكرا لتسافر إلي السويس لاستكمال المشاهد التي تقوم بتصويرها، وعندما كانت تطلب منها لبلبة أن تقوم لتراجع دورها وتحفظ عبارات المشاهد التي ستجسدها، كانت إلهام ترفض مؤكدة أنها لا يمكن أن تتركها وحدها، وفي النهاية قررت لبلبة أن تترك إلهام شاهين وتنصرف لكي تبيت ليلتها عند لوسي ارتين ابنة اختها، ورفضت أن تعود إلي بيتها لأنها لا تستطيع أن تتحمل الشقة وهي خالية، فكل شيء فيها مرتبط بوالدتها بدءا من مخدتها وشكل سريرها حتي المكان الذي تركت فيه حذاءها، فكل شيء في البيت يلخص صورة الأم وروحها، لدرجة أن لبلبة تقول: «إنها عندما تنظر إلي نفسها تتذكر أمها». لبلبة تشعر بالخوف من المستقبل ومن العالم المجهول الذي يحيط بها، لذلك تراودها فكرة «السفر» حتي تستطيع استعادة الطمأنينة والهدوء، تماما مثلما فعلت نيللي، عندما ماتت والدتها منذ ثلاث سنوات، فقد تركت بيتها وقضت 15 يوما في ضيافة إحدي صديقاتها ثم سافرت إلي بيروت ونيللي هي ابنة خال لبلبة وقد حضرت الجنازة هي وشقيقتها فيروز وميرفت وبدا عليهن التأثر الشديد برحيل عمتهن وفي اليوم الثاني كان علي لبلبة أن تستعد لحضور الصلاة والتراتيل التي سيقرأها مطران الكنيسة علي سرير والدتها بالإضافة إلي إطلاق البخور في أركان البيت كآخر طقس من طقوس الوداع لأمها الراحلة. نونيا أو لبلبة هي الأصغر بين أخوتها لكنها الأكبر بعاطفتها وحبها لأمها لذلك شعرت بأنها تقف عند مفترق الطرق، وأنها صارت وحيدة بعد وفاة والدتها فهي لا تعرف كيف ستمضي حياتها، لأنها لا تستطيع أن تهاجر إلي أمريكا مثل شقيقها ولن تجرؤ علي الغوص في بئر الوحدة بمفردها وتستسلم لمصيرها. ستظل «نونيا» كما عودتنا دائما رقيقة وذات مرح طفولي تسرق القلب وإن لم يعوضها شيء عن فقد أمها.