ضمن سلسلة ذاكرة الوطن التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، أعيد طبع كتاب "ترام القاهرة" لمحمد سيد كيلاني، الذي يصحبنا في رحلة عبر وسيلة مواصلات كانت في وقت من الأوقات "طاقة النور" التي منحت لأهل قاهرة القرن التاسع عشر الحرية والكرامة والفوضي أيضا. الكتاب يدرس ما يسميه "عصر الترام"، وما تبعه من تحولات في نسيج المجتمع المصري أوائل القرن العشرين، وأثر التكنولوجيا علي القيم والعلاقات الاجتماعية، وإضافة إلي ذلك فالكتاب يعد واحدا من البحوث الاجتماعية المهمة التي تدرس تجليات الحداثة المجتمعية، وتعتبر مادته موسوعة اجتماعية وفنية وثقافية وسياسية لفترة ما من تاريخ مدينة القاهرة، لذلك فقد صنفه أسامة عفيفي رئيس تحرير السلسلة في خانة "الذاكرة الاجتماعية"، حيث يتعرض المؤلف للشعر والأدب والفنون والجغرافيا والتاريخ السياسي والوطني، وحتي الحوادث والجرائم والنكات والرياضة التي ارتبطت بالترام، في إشارة إلي ما سماه ب"الحالة الترامية". المؤلف وهو صاحب كتب "الأدب القبطي.. تاريخه وأعلامه" و"شعر طه حسين" و"حسين كامل.. فترة مظلمة في تاريخ مصر" وأخيرا "في ربوع الأزبكية"، يكتب بما يوحي باستخدام وسيلة المواصلات التي اندثرت تقريبا الآن، كمرجع تاريخي دال علي فترة ما من تاريخ مصر، بل تاريخ الأخلاق المصرية، في بداية الكتاب يؤرخ لليوم الذي شق فيه الترام شوارع القاهرة، وقد وافق 12 أغسطس عام 1896، شارحا كيف كان هذا اليوم حدا فاصلا في تاريخ المجتمع القاهري، حيث انتقل المجتمع من طور البداوة والتأخر عبر استخدام عربات الخيل والحمير للانتقال، إلي طور الحضارة والمدنية المتمثل في استخدام القوة الكهربائية، وفي هذا إشارة إلي إنهاء الترام لعهد الإهانات التي كان يلاقيها سواد الشعب من أصحاب تلك العربات، وما يوجهونه للجمهور من ألفاظ نابية، وهذا معناه كما يقول كيلاني إن نشأة الترام ردت للمواطن المصري جزءا كبيرا من كرامته. إلي جانب ذلك، لم ينس المؤلف في هذا الكتاب، الذي صدرت طبعته الأولي عام 1968، الإشارة إلي ما سماه ب"الحالة الترامية"، وهي تأثير الترام علي الحركات الثقافية والفكرية والوطنية والفنية والرياضية، فأصبح هناك ما يعرف بالأدب الترامي وشباب العصر الترامي والنكت الترامية، والبيئة الترامية، أما المثير في أمر "الترام" فهو -كما يشرح كيلاني- أنه لم يسهل فقط طرق الانتقال بين ضواحي القاهرة، بل بقدومه زاد الاختلاط واستبيحت الأعراض وطاب للشباب السهر، أو بمعني أدق سهل الترام ممارسة العادة المجتمعية السيئة وقضاء الليل في الملاهي، مما ساعد علي تفكك الروابط الأسرية، الأكثر من ذلك كما يخبرنا المؤلف، أن المرأة استطاعت بكل حرية أن تركب الترام بمفردها، وتذهب في غيبة زوجها إلي حيث تشاء، حتي اتخذت محطات الترام أمكنة لتقابل العشاق ومغازلة النساء والاحتكاك والتحرش بهن، حتي أن خطباء المساجد أخذوا يحذرون الناس من الترام ويقرنونه باقتراب موعد القيامة، علي اعتبار أن الترام من الأمور المستحدثة التي تدل علي علامات الساعة.