" كل المعارك الفكرية ، هي معارك سياسية داخل الفكر " .. مقولة شهيرة للفيلسوف الفرنسي المعاصر لويس التوسير ، يجسدها اليوم أستاذنا الدكتور علي الدين هلال ، وهي مطبوعة في شخصيته كما في كتاباته وأقواله . فقد تعلمت من هذا الرجل أن بين الثقافة والسياسة وشائج قربي وصلة رحم ، فأنت لا تستطيع أن تمارس السياسة بحكمة واقتدار دون ثقافة ، ولا أن تكون مثقفا حقيقيا دون موقف سياسي محدد ورؤية نقدية للسياسة. أول درس تعلمته من الدكتور هلال، أو المايسترو، أن الديمقراطية هي (ثقافة) في المقام الأول، وأهم ما في الثقافة هو القدرة علي (التمييز) الدقيق، أو قل أننا بدون هذه الثقافة سنظل نتخبط ونخلط الحابل بالنابل، وحسب الفيلسوف الفرنسي بليز بسكال في إحدي خواطره المهمة: "المدنية تميز، والبربرية تخلط". الأصل الاشتقاقي لكلمة "مواطن" هو لفظة -Civitasت اللاتينية، التي تقابل كلمة -Polisت اليونانية، ومعناها المدينة. وكلمة "مواطن" هذه لم تطلق علي كل سكان مدينة روما أو أثينا القديمة ، بل كانت حكرا علي فئة قليلة من الناس منحت نفسها حق السيادة علي الشعب لتجعل من العامة والدهماء والغوغاء أداة استغلال ، فالتفرقة بين " الأحرار " و" العبيد " ، " المواطنين " و" الغرباء " ، كامنة في صلب النظام السياسي في اليونان آنذاك. استمر هذا الوضع مع الرومان وطيلة العصور الوسطي ، بموجب ما عرف ب" حق الملوك الإلهي " حتي القرن الثامن عشر، حيث ظهرت مفاهيم جديدة مع فلاسفة التنوير في فرنسا وانجلترا أمثال : جان جاك روسو ومونتسيكيو وجون لوك وغيرهم ، من أبرزها مفهوم " المواطنة " وهي ( حق ) من الحقوق الطبيعية التي يولد بها الإنسان ، وبالتالي فهي حق للجميع وليست حكرا علي فئة أو جماعة دون أخري ، وهنا فقط ظهرت فكرة المساواة - بالمعني العام - بين الناس جميعا. أول وثيقة رسمية عن المواطنة في العصر الحديث هي " إعلان حقوق الإنسان والمواطن " عام 1791 وكانت تهدف إلي وضع حد لمصادرة الإنسان في شخصه وأمواله وحريته من قبل الحكام ، والتعدي علي مبادئ : الحرية و المساواة والإخاء ، أو شعار الثورة الفرنسية عام 1789. الدرس الثاني الذي تعلمته من الدكتور هلال هو: أن مفهوم " المواطنة " صفة تطلق علي من يحيا في ظل نظام ديمقراطي يجعل الحياة حرة وكريمة وآمنة ، وأن مصطلح المواطن نفسه يرتبط بالضرورة بمفهوم الدولة . إذ لا يمكن الحديث عن المواطن خارج الدولة ، رغم أن الحقوق الطبيعية التي يتمتع بها المواطن سابقة علي وجود الدولة ، وهي حقوق مقدسة لا تمس ولا يمكن التنازل عنها لأنها ترتبط بجوهر الإنسان . وهنا ظهر الربط بين حقوق الإنسان و المواطن ، ذلك أن احترام حقوق الإنسان ضروري لممارسة حقوق المواطن . والمادة الثانية في إعلان حقوق الإنسان عام 1948 تقول : " أن هدف كل تجمع سياسي المحافظة علي حقوق الإنسان الطبيعية الدائمة..." وهذا معناه أن الإنسان لم يوجد من أجل الدولة كما أعتقد الفيلسوف الألماني " هيجل " بل جعلت الدولة لخدمة الإنسان. بيد أن خضوع ( الإنسان ) المواطن للقانون لا يعني أنه قد سلب حريته ، لأن مفهوم الحرية عند جان جاك روسو يقترن بالقانون " فقد ولدت الحرية يوم ولد القانون " ، وبالتالي فإن هذا الخضوع للقانون لا يعني أن المواطن فقد خاصيته الإنسانية الحقيقية ، لأنه :" إذا منح كل واحد نفسه للمجموع أو الجماعة كلها ، فإنه لم يمنح نفسه لأحد." ولا يخضع لسلطان أحد وهو بهذا يحافظ علي حريته. الدرس الثالث الذي تعلمته من الدكتور هلال ، أنه من الخطأ الاعتقاد بأن المواطنة تتلخص في الحضور المادي (الجسدي) ، في بلد ما أو أنها تتلخص في مجموعة من الحقوق التي لا يقابلها أي التزام (واجبات) . وهذا الاعتقاد خاطئ لسببين أوّلا لأنه يقوم ضمنيا ذ كما يقول - علي الخلط بين المواطن والمواطنة . وثانيا لأنه يخلط بين المواطنة وأصناف الانتماء الأخري سواء كانت ثقافية أو دينية أو إيديولوجية أو اجتماعية. ومن هنا يتوقف فهم المواطنة أساسا علي تحديدها تحديدا دقيقا في علاقاتها بالديمقراطية ، وهو ما تنبه إليه المعلم الأول (أرسطو) في كتابه " السياسة " ، حين قال : " المواطن كما حدّدناه هو علي وجه الخصوص مواطن الديمقراطية " .. والديمقراطية ليست شيئا آخر سوي " سيادة الشعب للشعب "، وهذا معناه أن المواطن هو عنصر فاعل في الحياة العامة، أو بالأحري في المدينة.