كانت في البداية مجرد "مزحة"، أطلقها د. إيمان يحيي الذي عرف نفسه بقارئ ومحب ومهتم بالتاريخ فيما تخصصه الأساسي "مسالك بولية"، ثم أصبح هذا "الإفيه" بصورة أو بأخري الصفة الأكثر اتساقا مع ضيوف وموضوع سيمنار التاريخ السنوي الذي عقدته منذ أيام كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية - قسم الحضارات العربية والإسلامية بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة، حيث ناقش سيمنار هذا العام كيفية قراءة التاريخ من مصادره غير المباشرة أو غير الرسمية، من هنا جمع السيمنار لمدة ثلاثة أيام تخصصات في مجالات العلوم المختلفة في الأدب واللغة والقانون والشريعة استخدمت كمدخل للبحث التاريخي، وأهديت الجلسات إلي روح محمد حاكم (1962 - 2007) باعتباره اشتغل وأولي اهتماما بالغا بفكرة المصدر في التاريخ، الذي قدم عنه د. عماد أبو غازي الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة بقوله: "كثير من أفكاري يرجع الفضل في بلورتها إلي مناقشاتي مع محمد حاكم، الذي فتح أمامي مجموعة من الوثائق قلبت نتائج دراستي عن أشكال الحيازة والملكية الزراعية في العصور الوسطي رأسا علي عقب". هذا التعبير "التطفل علي التاريخ" استخدمته كذلك د. ماجدة النويعمي من جامعة الإسكندرية المتخصصة بالأساس في الأدب اللاتيني، والتي قدمت ورقة بعنوان "كيف نقرأ الأدب اللاتيني كمصدر للتاريخ"، ووصفت فيه صورة كليوباترا لدي ذهنية الأجنبي من شعراء اليونان كعاهرة، والعكس تماما في ذهنية المصريين، لكنها أشارت كذلك إلي كلوباتوس الذي مدح ذكاء كليوباترا رغم الألفاظ الهابطة في وصف أخلاقها، وهناك من وصفها عزيزة النفس وأبية وإلا لما اقدمت علي الانتحار تفضيلا عن دخول روما ذليلة. وهكذا بدا موضوع سيمنار هذا العام شيقا ومثيرا: "حرفة المؤرخ: الروايات الرسمية وغير الرسمية للتاريخ في مصر والعالم العربي منذ العصور الوسطي"، حاول عبره المشاركون الخروج من إطار التاريخ الرسمي، والبحث عن أصوات المهمشين في التاريخ، لهذا كان من أمتع البحوث المقدمة مثلا نواة لرسالة دكتوراة لم تكتمل قدمتها آن كليمنت من جامعة تورينتو وباحثة في السيداج بعنوان "هل يتكلم التابع؟ البحث عن أصوات فلاحي المنوفية في الأرشيف القضائي في أوائل القرن العشرين"، والتي حكت عبر ورقتها عن الصعوبات التي يواجهها المؤرخ خاصة من اختار البحث عن المصادر غير الرسمية، وعن شبهة الجاسوس التي تلحق بالباحث الأجنبي، مما يعكس عدم فهم من قبل موظفي المؤسسة البيروقراطية لطبيعة وعمل المؤرخ، والعزوف عن تقديم وإتاحة ما يساعد ويسهل عمل المؤرخ. ثراء الموضوع ذاته فتح المجال لعدد هائل من الاقتراحات والآراء المهمة، التي اشتبكت مع الوضع الراهن لحال الوثائق المصرية المحفوظة بدار الكتب والوثائق، ففي الوقت الذي أجمع فيه الباحثون المؤرخون علي أن وثائق مصر في خطر، طالب بعضهم بأن تخرج تبعية دار الوثائق عن نطاق وزارة الثقافة، بعدما أثبتت فشلها في إدارة وحماية الوثائق والأرشيفات، في إشارة إلي الإهمال في معاملة الوثائق وفي تبويبها وسهولة إتاحتها للجمهور، وقد فجر هذا النقاش في اليوم الثاني د. حسام عبد المعطي من جامعة بني سويف الذي ناقش "المحاكم الشرعية مصدرا لدراسة تاريخ المدن المصرية إبان العصر العثماني - الإسكندرية نموذجا"، مشيرا إلي استعانته بأرشيف مكتبة الإسكندرية ومحكمة الإسكندرية الشرعية، وأكد في نفس الوقت أن هناك سجلات مفقودة، ومن هنا أثار د. حسام الجدل بشأن وجود قانون للوثائق في ظل غياب وزارة سيادية لحفظ الوثائق المبعثرة الموجودة مثلا في قصر عابدين أو وزارة الحربية، علق أحدهم بأنه لا توجد مطوية أصلية واحدة بدار الوثائق القومية عن السد العالي وثورة يوليو، وتساءل آخر "أين هو متحف الثورة الآن؟"، واقترح د. عبد المنعم الجميعي أن تحل مشاكل الوثائق في مصر بأن تجمع كلها في وزارة واحدة سيادية، ولتكن الرئاسة نفسها، في استعادة لما فعله الملك فؤاد بأن نقل "الدفتر خانة" إلي قصر عابدين وإتاحتها للجمهور. فيما عدا ذلك طرحت مناقشة الاعتماد علي المحاكم الشرعية كمصدر للتاريخ تلك الأفكار: أن كتابة تاريخ المدينة عبر المحكام الشرعية في مصر يغيب عنها في بعض المدن وضوح الأهداف من الدراسة كالدراسات التي تناولت رشيد، وأن دراسات المدن في الشام متفوقة عنها في مصر، لأن صوت الناس فيها أوضح، وأخيرا المحكمة مصدر للوثيقة ومصدر للتضليل في آن واحد، وذلك بسبب اختلاط الرتب العسكرية في الوثائق. بخصوص "المؤرخون والعامية في مصر العثمانية: هل تصنع اللغة العامية تاريخا اجتماعيا" طرح د. سيد عشماوي من جامعة القاهرة صاحب هذا البحث فكرة استخدام الكناية وال"سيم" كتلخيص للأحداث التاريخة، مؤكدا أن العامية ليست تدهورًا للغة وعنصرا هدامة للعربية بل هي لغة نامية، لكن العشماوي أثار حفيظة البعض الذي أكد ضرورة أن يكتب المؤرخ الحالي بالفصحي، وأن المستعين بالعامية لا يعد مؤرخا، من أجل التفريق بين تقنيات المؤرخ عن تقنيات الباحث في التراث الشعبي، وهذا الأخير يجوز له استخدام العامية باعتبارها جزءا أصيلا من أدواته البحثية، بينما طرحت تساؤلات الحضور عن أي السببين يجعل المؤرخ يلجأ للعامية: هل لمستواه التعليمي واللغوي أم لمحاولة التقرب إلي القارئ مثلما يفعل الصحفيون؟ ومن ناحية أخري فاجأ أحد الجمهور عرف نفسه بباحث في العلوم السياسية الجميع برأيه القائل بأن المؤرخ في العصر الحالي لا يجيد الفصحي ولا العامية، مدللا علي ذلك بأن الأجانب والعرب علي السواء يحتاجون إلي مترجمين لقراءة السيرة الهلالية للأبنودي. من هو المؤرخ؟ هل هو الذي يمتهن مهنة التأريخ، أم الذي نقرأ له ونجده يؤرخ لفترة ما؟ مثلما يفعل الأديب، وما الحدود بين حقائق التاريخ في مقابل خيال الأدب، وغيرها من المناقشات انتهت إلي أن التاريخ مزيج ما بين حقائق وخيال، وأن التاريخ حمال أوجه ووجهات نظر يصعب معه القبض علي الحقيقة. موضوع آخر شائك طرحته ورقة د. محمد فوزي رحيل من الجامعة الأمريكية عن "بين التاريخ والفلكلور: صلاح الدين الأيوبي في السيرة الظاهرية"، والتي استخلصت نتيجة أن سيرة الظاهر بيبرس كتبت كما لم تكتب من قبل، ولا يوجد ما يضاهيها في سيرة صلاح الدين الأيوبي، مفسرا ذلك بأن تعلق المصريين بيبرس أشبه بالتعلق بفتوة الحارة المصرية، وهكذا اختلطت الصورتان، وأضاف د. رحيل: "كان الظاهر بيبرس يمثل حالة مختلفة من السلاطين، فقد عرف عنه أنه متصوف وأراد مقابلة صوفي في صومعته فرفض، وعندها قبل السلطان ورحل، وقبول هذا الأمر بسهولة غريب علي السلاطين".