تحدثت في الأسبوع الماضي عن الموقف الذي تبنته الجمعية العمومية لمجلس الدولة في موضوع تعيين المرأة قاضية بمجلس الدولة، وتبين لي من المتابعة أن ما رأيته موقف غريب يحتاج الي أكثر من التفسير لموقف تلك النخبة من المجتمع المصري، يشاركني فيه الأغلبية العظمي من القراء والمحللين والناس في الشارع، يتساءل الجميع عن السر، ولم يقتنع أحد بالمبررات التي ساقتها الجمعية الموقرة لاصرارها علي اختيار موقف غير دستوري في مسألة توظيف المرأة، رغم وجود المرأة قاضية في الهيئات القضائية حتي المحكمة الدستورية العليا. كنت لا أود الاستطراد كثيرا في هذا الموضوع، نظرا لأهمية مجلس الدولة بالنسبة لمصالح المواطنين. وما زلت أعتقد أن الاستطراد فيه ربما يقود الي وضع غير مسبوق يشعر فيه المواطن أن سلطة قضائية يمكن أن تضع في الاعتبار رؤية خاصة لبعض أعضائها المحترمين فوق الدستور والقانون، الذين أقسموا اليمين علي احترامه وصيانته. النظام القضائي في مصر- في حدود معلوماتي العامة - مبني علي تطبيق القانون بمواده المختلفة، والقاضي ملزم باتباع ما أورده القانون من مواد تعالج الاجراءات أو العقوبات أو غيرها، وتقدير الدليل أو الدلائل أو القرائن أو مدي حجية المستندات المتوافرة في الدعوي كله مبني علي قواعد مقررة تخضع لرقابة المحاكم الأعلي درجة حتي يتوافر تكافؤ الفرص أمام المتقاضين ، وحتي لا تختلف الأحكام اختلافا بينا في الدعاوي المتماثلة من محكمة الي أخري لغير أسباب موضوعية. من هنا تأتي خطورة أن يتبني القضاة، في مجلس الدولة أو غيره، أمام العامة مواقف ليست ذات طبيعة قانونية وانما قد تكسوها شبهة التمييز ضد فئة من المواطنين لأي سبب كان، لذلك حرص القضاء باستمرار علي الابتعاد عن مواطن الجدل والشبهة ذات الطبيعة الاجتماعية أو السياسية أو الدينية أو غيرها والا تعرض حصن العدالة ،وهو الملاذ الأخير للناس، لأضرار بالغة. ان الاندفاع الي خلق مواجهة بين مجلس الدولة وبين الرأي العام من جهة ومع الدستور من جهة أخري لا يخدم الا من يستهدف أمرا مبيتا بليل، لا أزعم معرفته ولكن الكتاب يقرأ من عنوانه، الأمر ينبغي ألا يخرج عن السيطرة بالاندفاع وراء فكرة الاستقلالية، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للمجلس وتسخين الأعضاء بهذه الفكرة التي يبدو في ظاهرها الرحمة ولكن في باطنها العذاب. الاستقلال الذي يتحدث عنه البعض بمعني أن يكون القضاء منفصلا عن الدولة أو سلطة موازية لها ، ليس واردا في نظم الدولة الحديثة لأن القضاء في الواقع هو جزء من منظومة إدارة الدولة بمعني الادارة الواسع والشامل، يستمد شرعيته من وجودها ويقوم بدوره لخدمتها، ويقتضي دوره أن يكون مستقلا في قراراته الفنية فلا يخضع لضغط أو اكراه مادي أو معنوي، وتضمن النظم المعتمدة توفير حالة التحرر من الضغوط، ومن بين هذه النظم الاستقلال في إدارة شئون القضاء الداخلية لضمان عدم التعرض للضغوط المانعة للعدالة أو المؤثرة علي شفافيتها، وليس بهدف الانفصال عن الدولة والخروج علي دستورها. عودة الي موضوع مجلس الدولة وتعيين المرأة قاضية فيه بحقها الدستوري من ناحية، وتوافر الشروط التي تتطلبها الوظيفة من ناحية أخري، ونظرا لأن الجمعية العمومية للمجلس تبنت تفسيرا معينا لجنسية المتقدمين يحول دون قبول الاناث، تقدم الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء بطلب إلي المحكمة الدستورية العليا لتفسير المادتين رقم 73 و 83 من القانون 47 لسنة 1972 المنظمتين لتعيين الأعضاء الجدد بمجلس الدولة، وذلك لاستبيان مدي أحقية المرأة في التعيين بالمجلس وما إذا كانت سلطة قرار التعيين من حق المجلس الخاص أم الجمعية العمومية لمجلس الدولة. مذكرة رئيس مجلس الوزراء التي تقدم بها المستشار ممدوح مرعي وزير العدل الي الدستورية العليا تطلب تفسير العبارة الخاصة بجنسية المتقدمين للعمل بمجلس الدولة والتي تشترط أن يكون المتقدم مصريا وما إذا كان المقصود بهذا اللفظ هم الذكور والإناث علي حد سواء، أم أن اللفظ ينحصر معناه في الذكور فقط دون الإناث. يذكر أن أحكام الدستور اختصت كلا من رئيس مجلس الشعب ورئيس مجلس الوزراء بأحقية التقدم بطلبات التفسير المباشرة إلي المحكمة الدستورية العليا. كما أن من حق صاحب المصلحة اذا وقع عليه ضرر من التطبيق الخاطيء لمادة في الدستور أن يلجأ الي المحكمة الدستورية. من ناحية أخري، أكدت الأمانة العامة للجمعية العمومية الطارئة لمستشاري مجلس الدولة أن اختصاص المحكمة الدستورية بطلب تفسير نص تشريعي ينعقد فقط إذا كانت هناك خلافات حادة بين جهات مختلفة بشأن تطبيق النص المراد تفسيره، وأن الخلاف حول أحقية تعيين الإناث كأعضاء بمجلس الدولة هو خلاف داخل جهة واحدة توافقت الهيئات التي تتولاها علي رأي واحد هو إرجاء الموضوع لمزيد من الدراسة والبحث، مشددة علي أنه لا مجال في هذه الحالة لتدخل السلطة التنفيذية ممثلة في رئاسة مجلس الوزراء، واستعدائها لجهة قضائية المحكمة الدستورية العليا ضد جهة قضائية أخري وهي مجلس الدولة. أكدت الأمانة - أيضا - أنه لا خلاف علي تطبيق نص المادة 68 مكرر التي تخول لمجلس الدولة منذ إنشائه، وعلي مدي 64 عاما النظر في تعيين الأعضاء مستشاري المجلس. هذا التطور في الموقف ينبيء بخروج الموضوع من اطار خلاف في وجهة نظر يسعي أطرافه الي حله بما يحقق المصلحة العامة من خلال الوسائل الشرعية المتاحة، في هذه الحالة لا أحد ينظر الي أنه منتصر أو مهزوم، لكن السعي يكون لايجاد وسيلة لايقاف الجدل الذي يضيف استمراره الي الموقف تعقيدات كثيرة. لست أري في طلب الحكومة من المحكمة الدستورية تفسيرا لمواد الخلاف أي نوع من الضغط أو الاستعداء اذا سلمنا بأن الهدف هو تحقيق مصلحة عامة، وليس الدخول في منازعة مع سلطات الدولة الأخري. أما لهجة الخطاب في البيان الذي نقلته الصحف عن الأمانة العامة للجمعية العمومية الطارئة لمستشاري مجلس الدولة في تعقيبها علي خطوة احالة طلب التفسير الي الدستورية العليا فهي في الواقع لهجة " متوترة " ذات نبرة سياسية رغم أنها تمثل هيئة قانونية. ان تناول الموضوع علي أنه استعداء من السلطة التنفيذية لسلطة قضائية ضد أخري، يشير - في الواقع الي أن موقف مجلس الدولة من مسألة تعيين المرأة في وظائفه الفنية ليس مبنيا علي أساس قانوني، وإنما هو في الواقع رؤية سياسية واجتماعية لواقع معين في البلاد، من حق السادة الأفاضل أن يروها كيفما شاءوا، ولكن لا يجوز أن تتحول الي موقف سياسي للمؤسسة التي يقومون علي شئونها. !!!