علي سور الكورنيش في الاسكندرية وقبل حلول ظلمة المساء كان يسير حاملا صينية خشبية وقد تراصت عليها (قراطيس) اللب الأسمر ويتجول بها هنا وهناك ليشتري منه الجالسون المستمتعون بهواء المغرب العليل.. وبالرغم من أنه لا يتعدي العاشرة من العمر بأي حال من الأحوال إلا أن موقفه في ذلك اليوم لا ينسي. كان الرجل الطيب رب الأسرة الصغيرة يشتري لأولاده بعضا من اللب ويرثي في داخله لحال البائع الصغير الذي يقترب عمره من عمر أبنائه.. فأعطي له نقودا أكثر من ثمن اللب ورفض أن يأخذ الباقي كنوع من العطف والحنو علي البائع رقيق الحال.. فما كان من الولد الذي تحول فجأة إلي رجل قوي بكلماته القليلة الحازمة إلا أن قال للأب: (أنا بابيع مش باشحت) وأخرج الباقي وأعطاه للرجل وانصرف بكل كرامة وزهو. تذكرت هذه الحادثة وأنا أري المشهد نفسه يتكرر أمامي كل يوم تقريبا بأشكال مختلفة ومحتوي واحد: رجل طويل عريض أو امرأة في مقتبل العمر وكلاهما يستطيعان أن يعملا ويشتغلا بل ويهدما الجبال لو أرادا.. ولكنهما وأمثالهما يقفون منتظرين الفريسة التي سيتسولون منها.. وتبدأ الدعوات من ناحية أو الاستعطاف والولولة من ناحية أخري أو القصص الخرافية عن الأمراض الوهمية التي يعانون منها.. وغير ذلك من سبل التسول التي أصبحنا جميعا نحفظها عن ظهر قلب. وبالرغم من أن هذه القصة تتكرر كل يوم في كل شوارع مصر إلا أن قصة غلام الاسكندرية لا تتكرر أبدا.. ولم أر ولا سمعت أن أحدا كبيرا كان أو صغيراً يحترم كرامته ويترفع عن التسول مثل بائع اللب.. فما الأسباب؟ ولماذا كثرت أعداد المتسولين بهذه الصورة المهينة؟ وما الذي يدعو هؤلاء إلي التسول بالرغم من أنهم قادرون علي العمل؟ هل لأنه لا توجد فرصة عمل لهم، أم لأنهم اعتادوا التسول، أم لأنه من الأسهل أن تتسول؟ بالطبع توجد فرص عمل لهؤلاء الذين يستطيعون بكل سهولة القيام بالأعمال اليدوية التي لا تحتاج إلي مهارات أو خبرة ولكنهم يفضلون التسول علي مبدأ (ليه تشتغل مادام ممكناً أن تتسول؟).. وحيث إننا لا نطبق أية قوانين تخص منع المتسولين والتسول، ونترك هؤلاء الأفاقين يضايقون المارة من رجال وسيدات وحتي الأطفال، ولا يعترض طريقهم أحد؛ إذاً فسيستمرون في التسول ولن يوقفهم أحد. إذا كان بعض أولئك المتسولين فقراء حقيقيين فهناك جهات رسمية وجمعيات أهلية تستطيع مساعدتهم بطريقة لائقة.. وما داموا يستطيعون العمل فهناك من يساعدهم علي ذلك ويدفع عنهم مذلة الحاجة.. وإذا كانوا طبقا للأبحاث الاجتماعية غير محتاجين فلنمنعهم من هذا السلوك المشين الذي يقبح صورة هذا البلد.. وحيث إن بائع اللب وحيد عصره ولا يوجد مثله، فليس من الحكمة أن ننتظر حتي تحول كرامة الآخرين بينهم وبين التسول.. والأدعي أن نحمي كرامة بلدنا ونبدأ في تفعيل القوانين التي تمنع التسول وتحمي الفقراء.