علي الرغم من أن الرئيس محمد نجيب كان شخصية لها اعتبارها التاريخي، في لحظة زمنية فارقة، شهدت تحول البلد من الملكية إلي الجمهورية، إلا أنه لا يحظي بذات الاعتبار من الناحية السياسية في أي مجري حديث بشأن التقييم العام لعصور الجمهورية.. بل إن الذهنية العامة تتعامل مع رؤساء عصر الجمهورية منذ 1952 إلي الآن باعتبارهم ثلاثة، بينما هم في الحقيقة كانوا أربعة. وبغض النظر عن الظلم التاريخي الذي تعرض له الرئيس نجيب، من قبل ضباط ثورة يوليو، وكونه كان رئيساً انتقالياً لا يعرف هو شخصياً بصفته تلك والدور الذي قرره له الثائرون ولم يطلعوه عليه، فإن ما انشغل به الآن واعتبره مدخلاً لما أريد أن أقول بشأن المواصفات التي ينبغي توافرها في شخصية رئيس مصر، هو أن الرئيس محمد نجيب لم يدرج علي أذهان الذاكرة العامة.. ليس بسبب هذا الظلم وحده.. ولكن لأنه لم يكن رئيساً بالمعني المفهوم في نفوس الناس. منذ عام 2005، أصبحت عملية اختيار رئيس مصر تخضع لاشتراطات دستورية مقرة وهي السائدة ولا يلوح تبدلها في مدي قريب وربما متوسط، وبغض النظر عن نصوص المادة 76 من الدستور فإن الرئيس يختار وفق قاعدة الانتخاب الحر بين أكثر من مرشح.. وفي حين تثير فئات معارضة جدلاً حول تلك الاشتراطات التي تفرضها المادة 76 فإن ما يتم تجاهله هو المواصفات التي يقتنع بها الجمهور في المرشح الذي يمكن أن يفكر في طرح نفسه لكي يكون رئيساً لمصر.. إن لدي الجمهور (كوداً خاصاً) ليس له علاقة بالتالي بموضوع الاشتراطات الدستورية. إن السعي المشروع (سلمياً) وفي إطار أحكام القانون لا الفوضي، للمطالبة بتعديل الدستور حول هذه النقطة بالتحديد، ليس أولوية أولي من وجهة نظري، وأري أنه نوع من التغطية السياسية المتذاكية علي عدم قدرة المعارضة علي أن تطرح مرشحاً له قيمة حقيقية في نفوس الناس.. تمكنه علي الأقل من أن يخوض تنافساً يقوم علي الندية.. وأن يتمتع بالمصداقية فيما بين الناخبين قبل أن يكون له وجود ملموس في صناديق الأصوات. رؤساء مصر الثلاثة، منذ ثورة 1952، وضعوا سقفاً من المواصفات التي ينبغي ألا يقل عنها أي شخص يتصدي لعملية الترشيح في انتخابات الرئاسة أو يبدي الرغبة أو يتم استدعاؤه أو دعوته لكي يخوضها.. وعلي اختلافهم فكرياً وسياسياً وتوجهاً ومنهجاً، فإن بين عبدالناصر والسادات ومبارك (قواماً من جوامع المواصفات) التي لا يمكن تجاهلها.. حتي لو انطبقت علي البعض فرضاً اشتراطات المادة 76 أو وجدها آخرون تقف ضد رغبتهم. ولا أعني هنا ما قد يتبادر إلي الذهن مباشرة بشأن الخلفية العسكرية التي تميز بها كل من الرؤساء الثلاثة فقد كان نجيب المظلوم تاريخياً له نفس الخلفية العسكرية ولم يعنه هذا لكي يكتسب اعتباره ولكني أعني مقومات القيادة.. التي لا تنشأ بوصول المرشح إلي منصب.. هذه مقومات لا تولد في لحظة.. ولا تتأتي بالاستوظاف. وللقيادة، بتراثها الممتد حتي الحضارة الفرعونية، عناصر ليس شرطاً أن تكون البطولة المسبقة في الميدان، وإنما الاستعداد الشخصي المقنع للجمهور بأن صاحبها قادر علي أن يتصدي لهذه الاعتبارات إذا ما فرضت عليه.. إن المكانة التي يضعها المصريون في ثقافاتهم للرئيس تستوجب أن يقتنعوا بأنه حائط صد ودرع ومدير دفة ويمكنه أن يحفظ توازن البلد وأن يحافظ علي وحدته وأنه أيا ما كان الاختلاف معه في بعض الأمور يكون هو القادر علي احتواء كل اعتبارات الأمن القومي للدولة.. وهي مفاهيم قد لا يمكن للمواطن العادي أن يتكلم فيها بالعمق المطلوب لكن لها وقعا خاصا علي عقله يستطيع أن يقيسه ويفاضل به بين شخص وآخر. ورئيس مصر، حاكمها، ليس مجرد شخص وصل إلي الحكم عن طريق الانتخاب، بل إنه (زعيم الإقليم) شاء أو أبي، وحتي لو كان في حالة تنازع مع الإقليم، كما كان الحال في عصر السادات لبعض الوقت، وزعامة الإقليم صفة لا تولد حين يصل الشخص إلي موقع رئيس مصر.. بل إنه يجب أن يكون جديراً بها.. مع تفهمي الكامل لأن مقعد حكم مصر يضيف إلي صاحبه مقومات أخري.. لكنها لا تنفي ضرورة ووجوب أن تكون لديه مقومات مسبقة. الرئيس هنا، وكما يدرك العامة.. ما تتجاهله النخبة للأسف.. ليس مدير دولة ومجرد رئيس سلطة تنفيذية، أو منفذ برامج، أو مبشراً ببعض الأحلام الديمقراطية، بل هو قائد حقيقي يرتهن بقراراته مصير منطقة.. ولأن من يطرحون أنفسهم علي الساحة بطرق مباشرة أو غير مباشرة يدركون هذه المقومات التي هي في حد ذاتها تبعات.. فإننا نلحظ أنهم جميعا تقريبا لا يقاربون في جدلهم الداخلي مجموعة المسائل الإقليمية المعقدة.. والملفات الملتهبة.. ويصرون علي تسويق (مواصفات تفصيل) للرئيس الذي يريدون أن يكون.. بحيث يكون (منكفئاً علي ذاته).. يسبح في شئون الداخل.. وبمضي الوقت يتم اختصار هذا الداخل.. خطوة تلو أخري.. بحيث يكون المطروح علينا من أسماء تليق بأن يكون أصحابها مجرد محافظ للقاهرة.. وليس رئيساً لمصر وزعيماً للإقليم. وبالطبع يمكن للبعض أن يناقض تلك الرؤية ويتحدث عن حكم المؤسسات، وأنه يتنافي مع ما أطرحه باعتباره مواصفات فردية، وسوف أقبل هذا المعني.. وأرد بأن (حكم المؤسسات) في البيئة الثقافية المصرية واستناداً إلي التجربة التاريخية مرتبط بمقومات الفرد.. ومكانة الحاكم ومواصفاته.. الفرد في مصر ولا أعني بهذا قبولي فكرة الديكتاتورية أو السلطوية لديه تأثيره الأساسي في تفعيل حكم المؤسسات.. وكثير من المتقافزين علي الساحة السياسية المصرية يعبرون عن عدم استيعابهم معني المؤسسية وعن تجاهلهم تأثير المؤسسات في إدارة شئون مصر وقياداتها. إن هذا المعني يفتح الباب لمناقشة أعرض وأعمق وأوسع.. حول ما يجري في مصر الآن.. سأعود إليها في وقت لاحق هذا الأسبوع. [email protected] www.abkamal.net